رام الله المحتلة - خاص شبكة قُدس: في نهاية أكتوبر الماضي، نشرت مجموعة على تطبيق "تيليجرام" تحمل اسم "أيقونة ثورة" وصورة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وثائق وإفادات ادعت أنها مسربة للجنة التحقيق بقضية اغتيال عرفات، وردت فيها شهادات لشخصيات سياسية فلسطينية كانت مقربة من الراحل وتحمل طابع المساءلة والإجابة عن تفاصيل دقيقة حول علاقته بالمقربين منه، وتحاول معرفة من كان يسعى لتشويه صورته ومن يحاول إسقاطه وتقليص نفوذه وسلطته بدعمٍ عربي وأمريكي، من خلال سردهم تفاصيل عايشوها قُبيل اغتيال عرفات بأيام وأشهر قليلة.
في الرابع من أغسطس 2009 تشكّلت لجنة التحقيق بقضية الراحل عرفات بقرارٍ من قيادة حركة فتح، برئاسة اللواء توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية للحركة، وأحد المقربين والمحاصرين مع عرفات فيما عرف بحصار المقاطعة عام 2002، وهو الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات العامة عام 2007.
تزامنت هذه التسريبات المنشورة مع مرحلة "متوترة" شهدتها علاقة الرئيس محمود عباس مع اللواء توفيق الطيراوي، الذي أزاحه عباس عن رئاسة جامعة الاستقلال مطلع أغسطس الماضي، وغيّبه عن حضور جلسات اللجنة المركزية لحركة فتح، عقب نشر تسجيلات صوتية نسبت للطيراوي يهاجم فيها شخصيات قيادية في حركة فتح، أبرزها رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ المقرب من الرئيس عباس والذي تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه "وريث رئاسة السلطة".
ومنذ تأسيس لجنة التحقيق إلى حينه - لم يصدر تقريرها النهائي حول قضية اغتيال عرفات ومن تسبب به وكيف تم الأمر، ذلك بعد أن أكدت تحرّيات سابقة اغتياله بمادةٍ الـ "ثاليوم" السامة والتي يسهل وضعها في الماء والطعام كونها بدون رائحة أو لون، وهذا ما دفع لجنة التحقيق لاستدعاء أكثر من 300 شخصية مقربة من الراحل للبحث حول تفاصيل أيامه الأخيرة؛ بغية الوصول للمنفذ الذي دسّ السم.
حسم الجدل!
تواصلت "شبكة قدس" مع مستشار الراحل ياسر عرفات، بسام أبو شريف، الذي أكد صحّة التسريبات المنشورة والتي تضم إفادة له قدمها للجنة التحقيق قائلاً: "هذه الإفادة صحيحة، لكن يجب على لجنة التحقيق أن تضع سياق الأسئلة في إطارها السياسي العام، فالأسئلة لم تكن كما يجب، وكان عليهم أولًا أن يسألوا من كان المستفيد من الاغتيال؟ الجواب واضح وهم ثلاثة أطراف أمريكا وإسرائيل وأبو مازن، وذلك حين كان الأخير رئيسًا للوزراء حيث عمل على محاولة تجريد عرفات من صلاحياته بقوة أمريكية".
وبيّن أبو شريف، أنه كان هناك "عمل دؤوب وحقيقي وملموس ومدفوع الأجر، للتحضير لبديل ياسر عرفات الجديد كي يكون هو رجل السلام الحقيقي، وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي في حينه جورج بوش، ليعطي رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي السابق أرئيل شارون، الضوء الأخضر للقضاء على ياسر عرفات، تمهيدًا لقدوم الرئيس عباس بديلًا وذلك بمعرفة تامة من الأخير".
وأشار مستشار عرفات خلال حديثه لـ "شبكة قدس" إلى أنه لم يتابع إجراءات التحقيق خلال الفترة السابقة نتيجة تجريد الرئيس عباس له من أي منصب لاتخاذ القرار وإغلاق مكتبه وإلغاء مخصصاته وإحالته للتقاعد القسري، ودفعه للخروج من رام الله، مبينًا أنه يمتلك معلومات يحجم عن ذكرها؛ "كي لا تدفع الشارع الفلسطيني نحو تصعيدٍ دموي مع من يمسك القيادة"، حسب وصفه.
في ذات السياق تواصلت "شبكة قدس" مع عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير سابقًا، حنان عشراوي، التي أكدت صحة ما ورد في التسريبات على أنها إفادتها، قائلة: "ما ورد في إفادتي صحيح، ولا أستطيع إجراء أيّ مقابلة الآن". ورفضت التعقيب على دلالة توقيت النشر أو من يقف وراء التسريبات.
أما أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير السابق، ياسر عبد ربه، فرفض الحديث حول القضية، كما شاركه وزير الإعلام السابق نبيل عمرو الرفض بالتعليق على التسريبات قائلًا: أنا آسف جدًا لأنني قررت أن لا أتحدث بهذا الموضوع.
أما ابن شقيقة الراحل عرفات وعضو مركزية فتح سابقًا، ناصر القدوة، فقال ردا على سؤال "شبكة قدس": خليني بعيد عن هذا الموضوع قليلًا لأنه لدي موقف من قصة الاغتيال ولا أريد أن "يغبّش" على موقعي السياسي، ولا أريد أن أعلق على موضوع الاغتيال؛ "حتى لا يُخلط الحابل بالنابل".
توقيت التسريب!
وتواصلت "شبكة قدس" مع السفير الفلسطيني للهند سابقًا وعضو المجلس الثوري لحركة فتح سابقًا، عدلي صادق، الذي أكد أن التسريبات التي شملت إفادةً تحمل اسمه، حقيقية لكنها غير مكتملة، وكشف عن معلومة وصلته من القيادة الفلسطينية، تعتقد الأخيرة من خلالها أن الطيراوي يقف وراء نشر التسريبات؛ بهدف ما وصفه "لخبطة الأوراق" التي يمكن أن تفيد الطيراوي بالخلافات التي يحاول فيها الرئيس إقصاؤه من المشهد السياسي.
ويُعتبر الرئيس محمود عباس أكبر المتضررين من نشر التسريبات، إذ أن معظم الإفادات تركز على أنه كان على خصومة مع الراحل ياسر عرفات، وأنه حرّض عليه لرفع الحصانة السياسية عنه حسبما يرى السفير الفلسطيني الذي وضع سياق اغتيال عرفات بنقطتين؛ الأولى عند عملية إيصال السم ويعتقد هنا أن الرئيس عباس لا علاقة له بدس الدسم، لكنه مارس النقطة الثانية التي مهّدت للمرحلة الأولى وهي كشف الغطاء السياسي عن أبو عمار.
وأشار عدلي صادق في حديثه لـ "شبكة قدس" إلى أن الرئيس عباس حاول سابقًا التلميح ضد القيادي المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، بأن له علاقة باغتيال ياسر عرفات، وذلك في كلمة له أمام المجلس الثوري للحركة عام 2014، إلّا أن أحد المقرّبين من الرئيس نصحه ألّا يتطرق لاتهام دحلان؛ لأن العلاقة كانت بينهم - أي عباس ودحلان - قوية وكانا يسرّان لبعضهما كل شيء إبان مرض عرفات في 2003-2004، وبذلك يضع عباس نفسه في دائرة الاتهام.
وحول سؤال "شبكة قدس" عن احتمالية فصل الطيراوي من حركة فتح لاحقًا، كما حصل مع سابقيه محمد دحلان وناصر القدوة، أوضح صادق أن الرئيس عباس يعلم سياق الإفادات في لجنة التحقيق، ما دفعه لإقصاء ومحاسبة كل معترض، مثل أحمد عبد الرحمن وفاروق القدومي "أبو اللطف" وأحمد قريع "أبو علاء"، قائلًا: "مصير الطيراوي خلاص انحسم.. هو خارج زمرة عباس ليس بقرار منه، بل بقرار من عباس".
ومنذ أن أقصى الرئيس عباس، الطيراوي، عن إدارة جهاز المخابرات عام 2008 والعلاقة باتت متوترة بينهما، وبعد أن علم الطيراوي يومًا من مصادر فرنسية أن من هم حول الرئيس عباس يعملون ضده، ذهب لنصحه ولم يصدقه الرئيس وطلب منه إثباتًا، وهو ما دفع الطيراوي لإرسال مديرٍ في جهاز المخابرات يدعى "فهمي شبانة" ليستدرج رئيس ديوان الرئاسة الأسبق، رفيق الحسيني، الذي وقع في "فخٍ أخلاقي" بدلًا من "الفخ السياسي" وهذا ما أجج الأزمة بين الطيراوي والرئيس عباس، كما يروي عدلي صادق.
تصريحات الطيراوي، يصفها السفير الفلسطيني بأنها كانت دائمًا أكبر من حجم قوته على الأرض، واصفًا إياه بالذي يحب أن يصرح حسب توجهات الرأي العام، ما دفع الأجهزة الأمنية للتنصت عليه وعلى مكتبه، وكان الطيراوي في وقت سابق عام 2018 قد تقدم بشكوى للنيابة العامة زعم فيها أن الأجهزة الأمنية تتنصت على مكالماته.
أحدهم ينفي
من جانبه نفى رئيس تجمع المستقلين، منيب المصري خلال حديثه لـ"شبكة قدس" أن تكون التسريبات سليمة المصدر والتي وردت إفادته ضمنها قائلًا: "كل ما ورد كذب بكذب، إذا بدك تصدقهم، صدقهم، هذا مش كلامي، وما أعرفه فقط أن إسرائيل هي التي اغتالت أبو عمار".
ويرى المصري أن توقيت نشر التسريبات يهدف "لخلق الفتن وراء الفتن وراء الفتن". مضيفًا: لو عند الذين ينشرون التسريبات شجاعة، فليضعوا أسماءهم.
وكان رئيس لجنة التحقيق بقضية اغتيال عرفات، توفيق الطيراوي، قد أصدر بيانًا في وقت سابق، أشار فيه إلى أن "وثائق اللجنة تمت قرصنتها، وهي وثائق سرية لضمان سلامة سير التحقيق لحين الوصول للحقيقة الكاملة، وأنه سيتابع عملية القرصنة تلك وتقديم مقترفيها للمحاكمة".
وتواصلت "شبكة قدس" مع رئيس لجنة التحقيق، توفيق الطيراوي الذي بدوره رفض أن يصرّح للإعلام أي شيء حول قضية التسريبات، وقال: "مش كل التسريبات صحيحة، وأنا صدّرت بيانًا، ولتتفضل الأجهزة الأمنية وتحقق بالموضوع".
وحول سؤال "شبكة قدس" عن تساؤل البعض حول مغادرته للبلاد إبان نشر التسريبات، حيث أنه يتواجد في العاصمة الأردنية عمّان هذه الأيام، رد الطيراوي مستهجنًا: "معقول هيك! ما إلي أربع خمس أيام طالع أنا وابني وزوجتي، وبكرة راجع".
فيما حاولت "شبكة قدس" التواصل مع كافة الأسماء الواردة في التسريبات، مثل رئيس الوزراء السابق سلام فياض، والمفاوض الفلسطيني فريح أبو مدين، ومستشار الراحل عرفات أكرم هنية، ورئيس المجلس الوطني روحي فتوح، لكن دون رد، مع العلم أن أسماء أخرى وردت في التسريبات لكن وافتهم المنية في وقت لاحق.
ورغم التسريبات ومضي نحو 12 عاما على تشكيل لجنة التحقيق دون الخروج بنتيجة؛ ما زالت حقيقة اغتيال عرفات غامضة، والتساؤلات قائمة عن هوية المتهم بتسميم عرفات الذي أحيته مجموعة "تيلجرام"، وكذلك من يقف وراء التسريبات.