"كل شيء في الحرب بسيط جداً لكن أبسط شيء فيها صعب"... كلاوزفتز
لم يكن دوي المدافع على الجبهتين المصرية والسورية، في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، إلا فاتحة لحزمة واسعة من الإرادات السياسية والعسكرية للتلاقي في ساحة المعركة. ربما لم تحظى حرب في تاريخنا بكمية من القراءات المتناقضة كما حرب "يوم الغفران" أو "العاشر من رمضان" كما يسميها أهلنا في مصر.
الشاذلي: أمير التفاصيل والحرب الواقعية
كان إبداع الشاذلي المركزي في اهتمامه الزائد بالتفاصيل. بعد توليه مسؤولية هيئة الأركان في الجيش المصري انكب الشاذلي على بناء جيش مهني تخصصي، في وقت قياسي، استعداداً للحرب المقبلة. أصدر الشاذلي كتيبات صغيرة بحجم اليد يحملها كل جندي وضابط في جيبه، كدليل إرشادي لكل تفصيلة في الحرب (طريقة اللباس، المهمات المحددة خلال الحرب، طريقة التصرف عند الاعتقال).
عرف الشاذلي بحنكته العسكرية أن إعادة بناء الجيش المصري يحتاج إلى سنوات طويلة، لذلك ركز على بناء تخصصات داخل الجيش، تتناسب مع الخطة التي رسمها للحرب، وركز على تركيز كل جندي وضابط في تخصص يصبح مجاله الإبداعي متحققاً فيه.
شرح الشاذلي في الخطط العسكرية التي وضعها للحرب، بشكل شديد التفصيلية لكل جندي مهمته المطلوب منه، في عملية اجتياز القناة، وأدرك أن الجيش المصري لا يملك القدرة على اجتياز خط بارليف إلى البحيرات المرة أو تحقيق تحرير سيناء، واندفع نحو مجموعة من الخطوات التكتيكية وفلسفتها الأساسية: الاندفاع بقوات من المشاة المعززة بأسلحة مضادة للدروع نحو المنطقة المحمية من الصواريخ المضادة للطائرات.
قامت خطة "المآذن العالية" التي وضعها الشاذلي على تحقيق انتصار عسكري محدود، ومعالجة معضلتين عسكريتين واجهتا المصريين: تفوق سلاح الجو والمدرعات في جيش العدو.
أوجد الشاذلي وحدات متناغمة من القوات البرية التي تملك حزمة من أسلحة المضاد للدروع، التي عطلت في الساعات الأولى من الحرب، قدرة المدرعات الإسرائيلية على القتال والمناورة.
فلسفة الحرب
تقابلت في ساحات الحرب فلسفتين مختلفتين للحرب. ركز جيش العدو على المداميك الفنية - العسكرية للحرب بينما أدرك الجيش المصري أن القتال بصورة كلاسيكية كالتي نعرفها بين الجيوش ليست بمقدوره. لذلك انصبت جهوده على تحقيق اكتساح للمواقع الأمامية الإسرائيلية "خط بارليف"، وتحقيق انتصار على المدماك الاستراتيجي - السياسي النهائي.
التعارضات في فهم الحرب اشتعلت حتى داخل المعسكر الواحد. بعد الثغرة التي اندفعت منها قوات أرئيل شارون نحو غربي القناة وهددت مدينة السويس، ثارت الاتهامات بين أركان القيادة السياسية والعسكرية المصرية حول المسؤول عن الثغرة. يتهم الشاذلي السادات بالمسؤولية عن الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث التي سمحت لشارون بالدخول بقواته إلى غربي القناة، بعد أن قرر تطوير الهجوم، خلافاً لتوصيات الشاذلي الذي أراد من قواته أن تتمركز في المنطقة المحمية بالصواريخ المضادة للطيران، والدفاع منها واستنزاف قوات العدو، وتحقيق ثمن سياسي من خلال التفاوض على أرضية قوة.
ورغم قلب جيش العدو النتائج العسكرية في الميدان، في الأيام الأخيرة من الحرب، إلا أن النتيجة النهائية كانت انتصار أفكار السادات الذي أراد حرباً تحقق له تحريك الوضع السياسي في المنطقة، وتوسيع العلاقات مع الولايات المتحدة وصولاً إلى اتفاقية كامب ديفيد التي جعلت الأداء العسكري البطولي في ميدان الحرب "هباء منثوراً".
حروب الجنرالات
خلال فترة خدمته العسكرية، خاض شارون معارك مع كل قيادة جيش العدو تقريباً. أشهر هذه الصدامات ما يتعلق بحرب أكتوبر، حين اعترض على أفكار الجنرال بارليف حول بناء خط دفاعي ثابت لمنع التقدم المصري نحو سيناء. اعتبر شارون أن الخط الدفاعي الثابت يجعل القوات الإسرائيلية طعماً لأي هجوم مصري، واقترح بدلاً من ذلك بناء وضع دفاعي متنقل.
أثناء الحرب اندلع صراع آخر بين شارون وقائد المنطقة الجنوبية "غونين". كان شارون أعلن احتجاجه على تعيين غونين في قيادة المنطقة الجنوبية، ورفض الانصياع لأوامره خلال القتال واستمر في التقدم عبر الثغرة نحو غربي القناة.
كيف تغرق أجهزة الاستخبارات في المعلومات؟
بعد حرب 1967، توافقت المؤسسة الأمنية والعسكرية في دولة العدو على أن مصر لن تخوض الحرب الشاملة قبل امتلاكها قاذفات استراتيجية تمحو بها التفوق الإسرائيلي في الطيران.
قبل شهور من الحرب، أطلق السادات تصريحات مختلفة حول موعد الحرب المرتقبة. كانت نقطة الأزمة لدى "إسرائيل" هي اللحظة المناسبة لاستدعاء الاحتياط أو اتخاذ قرار بشن هجوم استباقي على المواقع المصرية والسورية، مشابه لما حصل في حرب حزيران/ يونيو 1967.
بعد الحرب، جرى تحميل مسؤولية الإخفاق لرئيس الاستخبارات العسكرية إيلي زعيرا، وبعد سنوات من إقالته من منصبه، أصدر زعيرا كتاباً أفشى فيه بعض أسرار الحرب. اعتبر زعيرا أن لجنة التحقيق في الحرب أزاحت المسؤولية عن رئيس الحكومة ووزير الجيش، بينما في الواقع فإن مسؤولية جهاز الاستخبارات هي في توفير معلومات مفصلة ومحددة عن الأوضاع الميدانية، وانتشار كل طرف على الأرض.
يزعم زعيرا أن معلومات وصلت إلى رئيس الحكومة حينها، غولدا مائير، حول نية السادات والأسد شن هجوم على "إسرائيل"، وقبل ساعات من الحرب نقل أشرف مروان لرئيس "الموساد" معلومات مشابهة.
الخداع الاستراتيجي الذي قامت به مصر، كان في تحريك القوات على الأرض على شكل مناورة تدريبية، وهي الفلسفة العسكرية السوفياتية التي تسمح للقوات بالانتقال من وضع المناورة إلى الهجوم.
قدمت الحرب لدولة العدو درساً استراتيجياً في آلية تحليل المعلومات الأمنية التي تصل إلى أجهزة الاستخبارات، وصفه رئيس الاستخبارات العسكرية أهارون حاليفا بالقول: يذكرنا هذا اليوم انه ينبغي مرارا وعلى الدوام أن نشكك وأن نخضع كل فرضية للانتقاد ونسأل أنفسنا بدون سقف ما الذي لا نعرفه، ولا نراه، ولا نسمعه، ودائما ينبغي أن نبحث عن الرأي الآخر.
كيف يحبط الساداتيون الانتصارات؟
كل جندي مصري شارك في التدريبات قبل الحرب، عرف أن المنطقة التي نفد منها شارون بقواته هي "ثغرة" متوقعة. بعد دخول القوات الإسرائيلية من ثغرة "الدفرسوار" اقترح قادة في الجيش على السادات سحب قوات من شرق القناة إلى غربها وتصفية الثغرة. كان هذا الإجراء يعني تدمير القوات الإسرائيلية وإلحاق خسائر هائلة بها. لكن السادات رفض وقدم هذه الهدية إلى الإدارة الأمريكية وممثلها في المنطقة "كيسنجر" على أنه إشارة تؤكد محبته "للسلام".
“دايان"... الخائف
"دايان شجاع في الميدان لكنه يخاف من اتخاذ قرار كبير… إنه لا يصلح رئيس حكومة"، هكذا وصف أرئيل شارون موشيه دايان "الشخصية الأسطورية" في تاريخ كيان العدو. كان دايان يحب الادعاء القائم حوله أنه رجل استراتيجي يفهم العرب. ورغم كل الصفات القيادية فيه، إلا أن العودة إلى الأرشيف التي سمحت "إسرائيل" بنشرها عن الحرب، تظهر صورة أخرى عن الرجل الذي تولى كل المناصب الحساسة في تاريخ الجيش الإسرائيلي.
يظهر دايان خلال الاجتماعات "خائفاً" و"مرتبكاً" ويتحدث عن مخاطر "استراتيجية" تهدد وجود دولة "إسرائيل"، رغم أن تقدير الموقف السليم كان يشير حينها إلى أن الجيش المصري لن يتقدم عبر الصحراء إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، لأن قدراته جعلته في موقف تقدم عسكري محدود، وكان الخطر الأكبر هو في تقدم الجيش السوري خلال الأيام الأولى من الحرب.
الأداء السوري في الحرب
لا تقدم الوثائق المتوفرة صورة وافية عن الأداء السوري في الحرب. بينما ما يمكن قوله إن الجيش السوري قدم أداء رائعاً في الأيام من الحرب، بعد المفاجآت التكتيكية التي صدم بها جيش العدو.
اعتقد جيش العدو أن القوات المصرية ستشن هجوماً من الجبهة الشمالية، بينما تقدم القوات السورية عبر الجبهة الجنوبية مكتسحة المواقع العسكرية. وكان الخطأ التكتيكي الأكبر الذي أقدم عليه جيش العدو، في التقدم عبر الدبابات إلى المواقع السورية، وهو ما أوقها في كمائن قاتلة وسط قوات المشاة المحملة بأسلحة مختلفة من مضادات الدروع.
لكن انقلبت النتيجة في الأيام التالية، بعد أن رفضت القوات السورية المناورة بشكل كاف في الميدان، بعد تلقيها أوامر صارمة بعدم الانسحاب من مواقعها.
افتراق أهداف القيادتين السورية والمصرية من الحرب كان له تأثيره على الصورة النهائية التي نعرفها اليوم.
الدور الفلسطيني المهمش
يروي الشهيد صلاح خلف "أبو إياد"، في مذكراته أن الرئيس السادات كشف له خلال اجتماع مشترك، عن موعد اندلاع الحرب، وطلب منه مشاركة قوات فلسطينية في القتال.
لا يحضر الدور الفلسطيني كثيراً في الكتابات التاريخية للحرب، لكن في الواقع شاركت كتائب مختلفة من جيش التحرير الفلسطيني، في المهام القتالية.
انتشرت كتيبة مصعب بن عمير على الحدود مع لبنان، ونفذت عمليات قصف لمواقع إسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، وشاركت قوات حطين في القتال مع القوات السورية، بينما كانت قوات عين جالوت تحت قيادة المصرية وأسندت لها مهام القتال ضمن قوات المشاة، وتمركزت قوات القادسية في المناطق الحساسة في عمق الأراضي السورية، بينما بقيت كتيبة زيد بن حارثة على الجبهة الأردنية وشاركت في الدوريات والكمائن على الخطوط الأمامية.