تندلع في القدس والضفة الغربية، منذ مدة، انتفاضة عفوية شبابية مسلحة. وقد شكلت نمطاً من المقاومة التي تجتمع فيها العفوية والعمليات الفردية، والتحركات الشعبية (بالحجارة والمولوتوف) إلى جانب النويات المسلحة التي ظهرت في مخيم جنين، والتي تمكنت مع الدعم الشعبي الآني والفوري، من دحر عدة محاولات لاقتحام المخيم.
ثم الظاهرة التي كرسها القائد الشاب إبراهيم النابلسي، وعدد من إخوانه الذين استشهد بعضهم قبله، وبعضهم معه، والحبل على الجرار، لا ينقطع في هذه الانتفاضة.
وقد شهد الأسبوع المشترك بين أواخر آب/ أغسطس وأوائل أيلول/ سبتمبر انتشار المواجهات العسكرية في عدد متزايد في الضفة والقدس، وانضمت لها العملية التي تصدّت لباص من الجنود والمستوطنين في غور الأردن.
هذه الوقائع فجرت مجموعة من التصريحات من قِبَل قادة في الشاباك والجيش، وعدد من الصحفيين الصهاينة، تحذر من انتفاضة مسلحة عامة، أو ما يشبه الثورة العامة، مما يعني أننا إزاء إجراءات لمحاولة تلافي هذا. التقدير للموقف قد يعني الاجتياح فالمواجهة، والذي إذا تحقق فعلاً وعندئذ يكون الاحتلال قد دخل المأزق الخانق، وتكون مسيرة التحرير قد خطت خطوة هامّة جداً للأمام.
ربما مال البعض إلى القول بأن مصير هذه الإرهاصات لانتفاضة ثالثة سيكون كمصير الانتفاضتين السابقتين، ولكن على هذا البعض أن يلاحظ الفارق الكبير بين وضع الكيان الصهيوني المرتبك والمتراجع اليوم ووضعه في الانتفاضتين المذكورتين، حيث كانت موازين القوى العالمية والإقليمية، وكان وضعه الذاتي في ذلك الوقت، غير ما هو عليه الآن. فالأوضاع العالمية والإقليمية، والوضع الذاتي للكيان الصهيوني في هذه المرحلة، غير مؤاتية له.
فأمريكا وأوروبا مشغولتان ومتورطتان في حرب عالمية مع روسيا، وفي مواجهة مرشحة في تايوان أو ما حولها مع الصين عسكرياً. أما على المستوى الإقليمي، فالمواجهة المتجهة إلى الحرب بين محور المقاومة الذي تقوده إيران، وكل من أمريكا والكيان الصهيوني، لا تسمح من الناحية العسكرية بالمقارنة بين اليوم وأمس، ناهيك عن الدور السلبي لقيادة فتح في ذهابها إلى اتفاق أوسلو في الانتفاضة الأولى، ودور عهد محمود عباس في الانتقال إلى التنسيق الأمني الأسوأ من اتفاق أوسلو، ولكن الأضعف كثيراً عن ذي قبل.
على أن العامل الذاتي الفلسطيني يمكن أن يضيف عنصراً لم يتوفر في الانتفاضتين الأولى والثانية، وهو وجود قطاع غزة المحرّر، وقد تحوّل إلى قاعدة مواجهة عسكرية. وقد فشل العدو في اقتحامها في خمس حروب، وآخرها كانت حرب "وحدة الساحات"، وإن دامت ليومين ونصف فقط. وكان ذلك بفضل الموقفين اللذين تكاملا موضوعياً: موقف حركة الجهاد وموقف حماس، وبالطبع فصائل المقاومة الأخرى. وهنا يجب أن يُلحظ المزيد من ضعف الكيان الصهيوني، أداءً سياسياً وعسكرياً.
وبالمناسبة، إن ما تشهده الضفة الغربية والقدس من تصعيد أُشير إليه أعلاه، يؤكد بلا جدال أن نتائج حرب "وحدة الساحات" وما تركته من موازين قوى في الضفة والقطاع، كانت إيجابية، في غير مصلحة العدو. ثم أضف ما حدث من تفاهمات بين حماس والجهاد، بعد تلك الحرب، من خلال تعزيز قيادة الغرفة المشتركة، يؤكد على أهمية دور المقاومة في المواجهة القادمة. وذلك إذا ما تطوّرت الانتفاضة المسلحة في الضفة والقطاع.
على أن شعار وحدة الساحات الذي وضعت بذوره الأولى حرب سيف القدس وانتفاضاتها، وقد شملت القدس ومناطق الـ48 والضفة الغربية ونصرة فلسطينيي الخارج، أصبح على الأجندة.
يختلف شعار (هدف) وحدة الشعب الفلسطيني، عن شعار (استراتيجية) وحدة الساحات، بأن الثاني أصبح مرهوناً بموازين القوى من جهة، وبمستوى التقارب في تصعيد المقاومة المسلحة والانتفاضات الشعبية، أساساً في القدس والضفة الغربية، وما قد يتيسّر من تصعيد للنضال في مناطق الـ48 من جهة أخرى. وبكلمة، الأول هدف وثابت، والثاني إجراء عملي تحكمه موازين القوى القائمة، الأمر الذي يوجب عدم التعامل مع وحدة الساحات الفلسطينية، باعتباره هدفاً مطلوباً لذاته في مجالات الوعي والإقناع والتحريض، كما هو الحال مع وحدة الشعب الفلسطيني.
فوحدة الساحات تتطلب إعداد استراتيجية تقضي تدخل المقاومة في قطاع غزة، لنصرة مواجهة ما، في مستوى ما، في القدس والضفة الغربية، مما يجمع الساحات الثلاث في معركة واحدة، أو حرب واحدة، أو تدخل المقاومة في قطاع غزة في حالة تعرض المسجد الأقصى لعدوان يقتضي ذلك، على سبيل المثال حين يتهدّد المسجد الأقصى أو مسجد الصخرة المشرفة الهدم الجزئي، أو الكلي، أو لفرض واقع يغيّر جذرياً ما عرف بالقانون الدولي للواقع القائم فيهما.
جاء طرح وحدة الساحات بسبب حدوث تغيّر في ميزان القوى، وفي إطار ما أخذ يتطوّر من مقاومة مسلحة وشعبية في القدس والضفة الغربية (في جنين ونابلس وطولكرم والخليل وعدد كبير من القرى والمخيمات)، كما في إطار ما أخذ يتصاعد ويتفاقم من اقتحامات وانتهاكات للمسجد الأقصى. وقد وصل إلى حد طرح بعض المقتحمين مخططات لاحتلال ساحاته وممارسة الشعائر الدينية اليهودية، وبعضهم هدّد بوضع أسس لبناء الهيكل المزعوم، أو المطالبة بهدم مسجد قبة الصخرة المشرفة.
بالإضافة إلى ما تقدم فيما يتعلق بتصاعد انتفاضة مسلحة وشعبية في القدس والضفة الغربية، فإن شهر أيلول/ سبتمبر استقبل بتصريحات تهدّد باقتحام المسجد الأقصى، وفرض المزيد من ممارسات شعائر دينية بمناسبة رأس السنة العبرية، وتكريس نفخ البوق، و"قربان الغفران"، وقرابين "العُرش النباتية".. الأمر الذي يوجب التصدي الحاسم لهذه الممارسات والانتهاكات، ووضع حد لها.
ثمة توجهان ينتظرهما شهر أيلول/ سبتمبر مع تصاعد المقاومة، وما يُتوقع من اقتحامات وانتهاكات للمسجد الأقصى: الأول، ترك الأمور تتداعى ليؤخذ قرار وحدة الساحات، بالتدخل من جانب المقاومة، وفقاً لمقتضى التطورات. والثاني أن توضع خطة مُعلنة ومُحكمة، تهيّئ للاشتباك الشامل، تحت هدف عدم السماح باقتحام المسجد الأقصى، ووضع حد نهائي له.
هذا التوجه الثاني يتطلب الإعلان بأن "السيل بلغ الزبى" في موضوع اقتحام الأقصى، وما عاد من الممكن عدم الحسم فيه، أولاً، وهي قضية عادلة من كل أوجهها القانونية الدولية والدينية والوطنية والعربية والإسلامية ثانياً، كما في موضوع مواجهة الاحتلال والاستيطان والاغتيالات والجرائم التي ترتكب يومياً.
موازين القوى بمجملها تسمح لقيادة المقاومة والشعب الفلسطيني بتحقيق إنجاز كبير مع توفر النفس الطويل في المواجهة. فالكيان الصهيوني لا يملك أية حجة في عدم الرضوخ، ولا يملك حلفاؤه تسويغ الاقتحامات، ولا يملك أحد من العرب والمسلمين أن يطالب المقاومة بالسكوت عما يجري من اقتحامات وانتهاكات للمسجد الأقصى.
إن هذه الخطوة إذا ما اتخذت وانتصرت، سيكون لها ما بعدها في مسيرة تحرير فلسطين.