شبكة قدس الإخبارية

رسائل لا تصل (3)

رحمة حجة
لأجل كل الرسائل الذاهبة مع الريح.. وتعويضًا عن كل التأويلات الموجعة لعدم تلقي أيّ رد، كانت ”رسائل لا تصل“، موئلًا أسبوعيًا للباحثين عن مسافة البوح بين خطوات من الخوف والتردد.  "هل أرحل عنك وقصتنا.. أحلى من عودة نيسان؟ أحلى من زهرة جاردينيا في عتمة شعر إسباني؟".. في بدايةعلاقتي مع هذه الأغنية، لاح لي شعرك، وتخيلت فيه زهرةجاردينيا. كم كان شعرُك جميلًا يا صباح. أتذكرني ابنة الست سنوات، التي تلعب مع أقرانها في الممر الموصل إلى بيتكِ القديم، وبيوت أخرى تعود لأقاربك، وأتذكرك تمرين أمامنا وتلقين علينا التحية، وأنت، ربما كنت في الخامسة والعشرين.. ربما أكثر.. أو أقل، كنت أجمل من أرى في قريتنا، وابتسامتك الخلابة تمنحنا تلك النشوة الطفولية إذا ما ألقى علينا شخص كبير السلام،نوع من الشعور بالأهمية. الشعر المموج الأسود القاتم، الذي يتحرر على كتفيك، وخصلة منه تقترب من عينيك.. الأقراط الكبيرة والحزام الذهبي على قميص وبنطال بألوان الموضة، مع حذاء يكشف جمال قدميك.. كان نمط ملابسك. أتذكرك الآن تمشين أمامي، وتبتسمين.. نعم، تبتسمين. كلما زرتِ البال، وتراءت لي ملامحك، أتساءل باستنكار "أيُعقل أن أحدًا لم يعشقكِ؟". يقترب رمضان. وفي وقت مشابه قبل نحو عشرين عامًا، أعددتِ مائدة شهيّة، تضمّ أصنافًا من الطعام، وكان ينقصها "صحن الحمص" الذي طلبت مني شراءه لك، ودعوتني حينها أن أشاركك فطورك، أو بالأحرى أكسر الوحدة التي تعانين، وتمنعك عن الاستمتاع بمذاق هذه الأطعمة. وأنا رفضت؛ فأمي قالت لي "لا تتأخري..". ليتني تناسيتُ كلام أمي وبقيتُ معك يا صباح، ليتنيأشعلت شمعة للأمل فيما بيننا، وأزلتُ عنكِ بعض التعب. يقولون أنك فقدتِ عقلك وجُننتِ، وملابسك لا تشبه التي في ذهني، فثناياها ممزقة ومتسخة.. يقولون أنك الآن تجلسين على كرسي انتظار في أحد شوارع عمّان، وتنامين وحدك في الليل، وتستيقظين دون أن يقول لك أحدٌ "صباح الخير".. يقولون أنك ترددين عبارات لا يفهمها أحد، وشعرك الفاتن مشوبٌ بغبار الطرقات والأرصفة.. يقولون أشياء تمزقني! ليتني أراك الآن، أمدّ إليك يدي.. ونمشي ونمشيمسافات طويلة، أخبرك فيها عن نفسي، وعن حيّنا.. من توفي ومن تزوج ومن استشهد ومن هاجر. وتخبرينني ماذا فعلت بك السنوات وظلم الناس، ليس القصد "تنبيش" الجروح، إنما "الفضفضة".. أظن كلينا تحتاج إليها. ماذا لو أن ما حدث لم يحدث؟ ربما تهاتفني أمي يومًا، قبل سنوات عدة، وتخبرني أنك تزوريننا مع أطفالك الثلاثة، وتراجعون معًا ذكريات "الحارة"، وتضحكين وتسألينها عن أخباري؟ هل كان صعبًا أن يتجه مستقبلك إلى هذا النحو؟ ربما أبكي الآن، فالرسائل لا يكتبها حبرٌ سحري على هذه الشاشة، إنما تكتبها دموعي. هل تتذكرين حين جئتك باكية لأنني أوقعت من يدي "كيس بزر بطيخ" اشتريته لك، وتناثر على تراب الطريق؟ يومها حضنتني وقلت "مش مشكلة حبيبتي.. عادي!". ليت أسباب البكاء توقفت عند "بزر البطيخ" يا صباح!