شبكة قدس الإخبارية

قفز على حواف الموت

7U4Cc
الأسير قسام البرغوثي

لاح بنوره الصباح، فلم يعد الوقت كافيا للتلكؤ أو الحيرة. ما كنت أتوقعه وأخشى حدوثه قد حدث، لا يجب أن أتردد لحظة.فأنا كما تعرف أدرك عواقب التردد في الأمور التي تحتاج إلى حسم ، وأعلم تماما مصير المتردد وما النهايات التي يؤدي إليها التردد.

شربت من فنجان القهوة وأكملت. كنت قبل إطفاء المصباح قد حلقت لحيتي وتخلصت من الشعر المستعار ومجموعة من الأدوات التي تساعدني على التنكر من عدسات لاصقة وملابس وشوارب. حزمت الأغراض وأتلفت ما يجب أن يتلف وهربت من الباب الخلفي للشقة . نظر إلي نظرة جدية لبضع ثوان ثم أخذت ترتسم على زاوية فمه ابتسامة حاول أن يخفيها دون أن أعرف مغزاها، ثم حاول أن يسألني بجدية: وهويتك المزيفة؟ أتلفتها أيضا

بدأ يتحول شيئا فشيئا من الجدية إلى الضحك فقال: جاءتك الفرصة لتتخلص من الإثم. ضحكت وفي منتصف الضحكة لم أستطع إيقافها قلت: لم أكن منذ البداية رافضا للإثم. جبير بشسع نعل كليب.وأخذنا نضحك معا. استغربت ، كيف كنا قبل ساعات من الآن وكيف الآن أضحك. حدقت في وجه أبي عامر الذي راح يسأل ويحمر وجهه وقلت لنفسي: بعض الناس تشعر بالفرح والطمأنينة معهم لو كنت على حافة الموت وبعضهم يزعجك حتى لو كان في فراشه. في الحقيقة كنت أرفض اسم جبير. كنت أريد اسما آخر. لكنه كان أفضل الأسماء التي اقترحت حينها. وبعد جلسة مطولة قدمت فيها تقريرا مفصلا وأجبت على استفسارات أبي عامر الكثيرة بأدق تفاصيلها. وأجابني على كل تساؤلاتي . تناقشنا في عدة مسائل. وشعرت أن إقامتي ستقتطع من وقته، وكنت أدرك قداسة الوقت عنده. فربما هناك العديد ممن ينتظرونه في موعد هنا أو هناك. سألته : والآن ما العمل؟

 

أشعل لي وله سيجارتين وقال: الآن لا تعد للشقة مطلقا، ولا حتى للمنطقة كلها. أخذ نفسا من سيجارته، نفث دخانها واسترسل في حديثه، ولا تحاول أيضا أن تستفسر عن مسير الرفاق بأي طريقة. نحن سنوافيك بأي شيء ، ولا تقلق، فلا أحد يعرفك بهويتك الحقيقية. لا يعرفونك إلا جبير. أما الآن فلا يعرفك أحد. عد إلى قريتك حتى نأتيك ونقرر ماذا بشأن عملك وشأن نشاطك.

لكن .

قبل أن أكمل قطع علي محاولتي للاعتراض حين نظر إلي نظرة صارمة أعرفها تمام المعرفة. توادعنا وعدت في طريق طويل إلى قريتي.

***

لم يكن غيابي عن قريتي عين السور طويلا. فقد كنت أعود كل أسبوع تقريبا بعد أن أتخلص من تنكري ومن جبير الذي أكونه، لأعود إلى ما كنت قبله. لكنني هذه المرة يبدو أنني سأمكث طويلا دون نشاطي السري الذي أعشقه، دون رفاقي الذين لا أعرفهم ولكني تقافزت معهم على حواف الموت وأتمنى ألا يكونوا قد اعتقلوا على يد الاحتلال أو السلطة.

لماذا أضيء المصباح. خلال أيام هي الأولى تفاعلت كثيرا مع أبناء قريتي. وصرت أخرج مساء للمشي في شوارعها التي تعشعش فيها رائحة الياسمين، كنت أراقب رتابة الحياة. هذه الرتابة وهذه الأوضاع التي يشتكون منها دائما، من مللها اليومي ومن روتينها المقرف الذي يعيشه الواحد منهم كل سنوات عمره وهو يشتكي منه. هذا في الوقت الذي أتمنى فيه أن يكون اليوم الواحد عشرات الساعات لأنجز كل ما أريد من أعمال. هل ستكون أيامي القادمة مثل أيام حياتهم؟ هل سأجلس مثل متقاعد؟ هل ستمضي دون أن أشعر بالفرح السري الذي يضفي على حياتي المعنى الأسمى لها، دون أن أبرر انتمائي لهذا الوطن المحتل ولهذا الحزب الثوري؟. لماذا أضيء المصباح؟ تلك الإشارة اللعينة. عدت لأعمال الأرض، الأرض التي غبت عنها، عن ترابها وأشجارها وكل ما بها. كنت أتمنى أن يكون لدي الوقت لأفيها حقها. تقع أرضنا في سفح جبل مطل على الغرب تسمى أم النسايم ، ففي كل أوقات الصيف والحر والقيظ تشعر فيها بنسائم رطبة منعشة. بدأت أذهب كي لا أقضي طيلة أيامي في انتظار أبي عامر بلا عمل أقوم به. في كل صباح أحمل طعامي وكتبي وسجائري، أنتشل الماء من البئر وأسقي الشجيرات المتنوعة، أنظف بقعة ما من النتش والحجارة والأعشاب وأجمعها في منطقة ما لأحرقها، وحين تبدأ الشمس بإطلاق سهامها الحارقة أستظل بشجرة زيتون معمرة، أتناول فطوري، أدخن أو أقرأ، أو أكتب أو أنام لساعة أو ساعتين ثم أكمل عملي عصرا. وإذ يحين الغروب أجمع أكوام النتش وأعد إبريقا من الشاي وأظل "أجغب" حتى تخمد النيران ويسدل الليل ستائره السوداء فأعود إلى البيت.

كانت أم النسائم مدرسة من أهم مدارس الحياة تعلمت فيها أعظم الدروس وكان أبي معلمي فيها. في كل شيء في الأرض أتذكر درسا من دروسه، أستحضرها مع كل ثمرة وكل شجرة علمني زرعها ومع كل عشبة علمني اسمها واقتلاعها. أراقب شجيرة علمني زراعتها لتكبر الآن وتطولني بمرتين أو ثلاث.أنظر لحبات من التين تبقى لنضجها ما يقارب الشهرين أو الثلاثة. أتذكر أول درس في العطاء، أتذكر حواري الطفولي معه، حين شاركته أول مرة في زراعة شجرة.

أبي، لماذا تحب أن تزرع التين

أحب كل الشجر المثمر

لكنك تزرع الآن تينا وعندنا منه الكثير

لأن عمر التين طويل

الزيتون عمره طويل، ألم تخبرني بذلك؟ ثم إن اللوز يعمر طويلا، لماذا تزرع التين؟

بدأ يزيح التراب برقة بيديه الكبيرتين حول الجذع الاصغير ودعاني لصب الماء وأن ألبد التراب بقدمي حول الجذع. وبدأت أدور حوله، وأبي يحكي لي أن الشجر يعطي ثمرا، وحتى لو لم يعط ثمرا فإنه يعطي ظلا وحطبا.

قاطعته : لكنك تحب التين أكثر. لا أعرف إن كان يحب التين فعلا أم أنه اضطر أن يبرر لي أمام إلحاحي الطفولي، وراح يشرح لي باستفاضة:أحيانا ما ينطبق على الشجر ينطبق على البشر. أحب الشجر الذي يعطي ويفيد كما أنني أحب الإنسان الذي يعطي ويفيد. إن من يعدم العطاء يعدم الحياة والوفاء. فالعطاء هو نوع من الوفاء. فحين تكون وفيا عليك أن تعطي وقتك وتعبك وعملك للشيء الذي تنتمي إليه. فالشجرة تعطي وفاء للأرض التي تتجذر فيها وتنتمي إليها. وقبل أن تعود وتسألني عن التين فإنني أجيبك لكن بعد أن تسكب لي كأسا من الشاي وتحضر لي علبة السجائر. ركضت بأقصى ما لدي من السرعة، أحضرت ما طلب مني وطلبت أن أشعل له السيجارة. أشعلتها وسكبت له بعض الشاي الذي كان يحافظ على بعض الدفء فيه، وقد كان أبي يحبه باردا. رشف أبي رشفة وأكمل حديثه قبل أن أسأله: أحب شجر التين لأنه يعطي بثبات وصمت، وأشار لي إلى شيء مدبب يبرز من بين ورقات الشجرة وقال: هذا يتحول إلى ثمرة. مهما كانت الريح قوية فإنه حتما يبقى وينمو بصمت، وبإمكانك أن تعرف كم ستعطيك منذ بدء تكوينها. تعطيك كما تعدك. تعطيك بثبات وصمت دون بهرجة وإعلان عن عطائها فلا تزهر زهرا ولا نوارا. أما اللوزيات فإنها تنور وتبهرك بألوانها وكثرتها لكن معظمها تكون وعودا كاذبة بالعطاء، تعلنها لكل من حولها ببهرجتها لكن مطرا خفيفا أو ريحا أو حصاة صغيرة تضرب أغصانها فتسقط كل ما يمكنها أن تسقطه، لأنها هشة وعطاؤها قائم على البهرجة وعلى أشياء أخرى شكلية.

أشعل أبي سيجارة أخرى وأكمل: بحياتك يا بني ستصادف من يعطيك بصمت وثبات كأشجار التين، وستجد من يعدك بالكثير الكثير وتسقط عطاءه مجرد ريح كما اللوز. ولكن الأهم هو أن تعطي أكثر مما تأخذ. أن تعطي بصمت وأن تتجذر في الأرض ولا تخذلها وألا تخذل أحدا. جلست أقارن بين " أبو عامر الذي يعطي بثبات وصمت وبين السياسيين الذين يتنفسون وعودا كاذبة دون أن ترى منهم أي عطاء أو وفاء. يقفز في ذاكرتي رأسا مقطع مسجل لرئيس السلطة منذ أكثر من عشرة أعوام: "لن يهدأ لنا بال إلا إذا حرروا جميعا وبيضت السجون" ويبث هذا المقطع يوميا على إذاعة السلطة التي تعطي من وقتها ثلاث ساعات أسبوعيا للأسرى وذويهم، وتبث دون خجل هذا المقطع، هذا الوعد، على مسمع أسير أمضى عامه العشرين وآخر أمضى عامه الثلاثين وآخر عامه الأربعين. وصرت أتذكر الأرض، وصرت لا أفوت موسما دون دون أن أشبع من التين عدة مرات.

 

****

في وقت الغروب في مثل هذا الوقت جهاز الراديو يصدح بأغنية لأم كلثوم والشمس تلقي بأشعتها على البحر القريب البعيد تاركة خلفها بقعا سوداء على صفحة البحر البرتقالي الذي لم أصله.

ثم رحت أشعل النار في الموقد القديم لأعد إبريقا من الشاي. سكبت ما تبقى من الشاي في كأس وقمت بتحضيره لشاي جديد. وبعد دقائق سيظهر أبو عامر من مكان ما.وضعت إبريق الشاي على الموقد وجلست أراقب مشهد الغروب وأنا أفكر في نص ما سأكتبه. وتذكرت دفتري القديم الممتلئ بنصوص بدائية لم يسعفني الوقت لكتابتها وتذكرت النصوص التي لم تكتمل وما أكثرها.

تبتعد قريتي مسافة طويلة عن أقرب مستعمرة صهيونية أو أي حاجز عسكري. لكنك تجد الاحتلال في أبسط أشيائك. كيف يتعامون عن وجوده. كيف يعيش الناس حياة طبيعية وكأن وطنهم لم تطأه أقدام الصهاينة؟ كيف يمكن أن يعيش الإنسان حرا بلا مبالاة كهذه؟ كيف لا يرون هذا الاحتلال في بحر ممتد أمام أعينهم لا يستطيعون الوصول إليه إلا بتصريح من الاحتلال؟ كيف لا يرونه في أضواء المستوطنات على رؤوس الجبال البعيدة، وفي أخبار الإذاعات التي تخرج كل يوم بشهيد وجريح وسرقة ونهب واستيطان!؟

ضعت مقدار ملعقتين من الشاي في الإبريق. تركته يغلي قليلا ثم وضعته بجانبي. كان الراديو يدندن هذا المقطع:

بيني وبينك هجر وغدر... وجرح بقلبي داريتو

بيني وبينك ليل وفراق وطريق انت اللي بديتو

تتداخل مع الموجة الإذاعية بين حين وآخر موجة صهيونية فأقول: مهما فكر الإنسان بتناسي وجود الاحتلال أو التعامي عنه فإنه ينغص عليه في أبسط الأشياء التي يحبها. يعكر صفو أغنية يحبها ليذكره بوجوده وإجرامه، يذكره بتعاميه وجبنه وخوفه.

كنت سارحا بأفكاري حين وقف أبو عامر على بعد خطوتين مني هكذا نبت خلفي مثل شجرة دون أن أعرف سيره من أين جاء. هل هو نبت من الأرض التي أحبها وتجذر فيها. رحبت به وعانقته، أجلسته على الصخرة بجانبي، قدمت له الشاي أشعلت له ولي سيجارتين، ثم رأيته يحدق في مشهد الغروب.

رشف رشفة ثم هز رأسه بحركة تنم عن إعجابه بالشاي ثم قال: يبدو أن هذا المشهد يأسرك ويخدمك.

تمتمت معلقا ومادحا المشهد. رشف رشفة أخرى وانتظرت أن يتحدث. راقبت التماعة الشمس في عينيه البنيتين، واصل حديثه: ويبدو أنك ستشرب الكثير من الشاي هنا. وسيلهمك هذا الغروب طويلا.

في البداية لم أفهم مقصده فراح يشرح لي: ستبقى هنا وستعمل هنا وستحضر أغراضا ومواد لتكمل ما بدأته هناك. إبحث عن مكان آمن لتعمل فيه. فرحت لذلك. وفرحت لبقائي في المكان الذي أحب وأن أفعل ما أحب في أكثر مكان أعرفه. لاحظ فرحي بذلك. تناقشنا طويلا في أمور العمل. راح يحدثني عنةمصير الرفاق في المدينة. ثم حددنا موعدا للقاء التالي ومكانه وقائمة بالأغراض اللازمة للعمل. وصافحني ومشى مبتعدا. بعد عدة أمتار توقف كمن تذكر شيئا : على الأقل ستحافظ على اسمك دون جبير. ضحك واختفى خلف شجرة بعد أن لوح لي بيده.

كنت قد اخترت مكانا للعمل، غرفة كانت لعمة والدي تحيط بها بعض أشجار اللوز والحمضيات. يفصل بينها وبين منزلي الشارع الاسفلتي. توفيت عمة والدي دون أن تتزوج. وكان عمي منذ أكثر من عشرين عاما يضع فيها أغراض الزراعة ولوازم قطاف الزيتون. لم يعد يأتي إليها أي أحد لأنه لم يعد أحد يهتم بالزراعة ولا بقطاف الزيتون.

وضعت الأغراض التي أحضرتها وراء سور الحديقة وتركتها لحين إحضار باقي الأغراض واللوازم وأدخلها معي للغرفة وأبدأ العمل. عدت إلى منزلي تناولت قنينة عصير جزر كنت قد عصرتها من قبل ووضعتها في الثلاجة لتبرد ريثما أعود. وضعتها على الطاولة في غرفتي ثم أحضرت حقيبة بلاستيكية صفراء تكبرني بعدة أعوام. كانت أمي تحتفظ فيها بصور طفولتي وشهادة ميلادي ورسوماتي وكل ما كنت أكتبه. وصرت أستخدمها بعد ذلك لوضع دفاتري والأشياء التي أكتبها. وكنت أضع فيها رسائلي التي لم أجرؤ على فتحها رغم أني أحفظ كل كلمة فيها. أخذت دفترا كنت قد كتبت فيه قبل اثني عشر عاما. ضحكت على إحدى العبارات التي كتبتها على غلاف الدفتر، ضحكت على خطي السيء الذي كانت معلمتي تسميه "خرابيش الجاج" وضعت الدفتر أمامي وحين هممت أن أفتحه مرت سيارة وحين قمت، كانت قد مرت مسرعة في طريق انفرادي.

عدت لتصفح الدفتر كنت قد حاولت فيه كتابة قصة عن بلال كتبتها منذ أحد عشر عاما ولم أكن أعرف عنه سوى أنه أحد مطاردي قريتنا. وكنت التقيت به صدفة. كان يحمل بندقية وكان هذا اللقاء أحد أكثر الأمور التي أفخر بها بين أقراني. فأول مرة أرى صورة هذا المطارد أمامي. فقد ترك هذا اللقاء أثرا كبيرا على توجهاتي الوطنية. كنت أتمنى أن أصبح مثله. لم يبارح بلال خيالي. كنت أفكر أن أعرض عليه أن أعمل معه. فقد مضى على تحرره عدة أعوام.هل سيوافق؟ لكن الحديث معه يحتاج لفترة أبني خلالها بيني وبينه ثقة، وبعد ذلك.أتحدث معه

زقزقت العصافير فرحا ببزوغ فجر الخميس، رأيتها تتقافز على شجرة خوخ تنقر حباتها. تركتها بفرحها ومضيت. في بداية الطريق فكرت أن أضع شيئا يبعد العصافير عن ثمار الخوخ. وقعت الفكرة على زجاجات الشراب التي تبعد مئات الأمتار في منطقة تعد متنزها لأهل القرية. ذهبت إليها وأخذت بجمع الزجاجات. لفتني هناك كومة قمامة. اقتربت منها. علب السجائر الفاخرة، قشور البيض، تفل الشاي، وأسراب من النمل تنقل بقايا الجزر وأشياء أخرى. ما الذي أوصلها هناك، ماذا ينتظرني. لا بد أن أعرف بل من الضروري أن أعرف ماذا يريد أي أحد من القمامة. لو كانت المسافة أقرب كنت سأعتقد أن كلابا ضالة أو خنازير برية قد عبثت بالقمامة بحثا عن شيء تأكله. لكن يبدو أن هناك من هو أقذر من الخنازير يعبث بالقمامة. أكملت يومي المعتاد وأنا أفكر بسبيل لمعرفة من هنالك ثم توجهت للقاء أبو عامر، أخبرته عن ذلك الذي يبحثون عنه، فقال لي : إن الهدف أن يعرفوا إن كنت أعمل أو كنت أعمل، ولكنني لم أكن قد بدأت العمل، وحتى لو كنت قد بدأت لما رميت أشياء تدل على العمل. أخذت مع أبو عامر موعد لقاء جديد أو الاتصال السريع في حالة طرأ طارئ ما.

ألقيت القمامة في مكانها وجلست أراقب من نافذة غرفتي عدة ساعات ولم يأت أحد. غلبني النعاس فنمت، وحين استيقظت لم أجد القمامة ولم أعرف ما إذا كان أخذها عمال النظافة أم أخذها السائق/ السارق. ذهبت إلى حيث وجدت القمامة المسروقة في المرة الأولى فوجدتها هناك. وفي اليوم التالي رميت القمامة في ذات الساعة وعدت إلى البيت، أضأت غرفتي ودخلت متسللا إلى حديقة قبالة المنزل ، وقفت خلف السور، فتدلى أمامي على حافة السور أغصان شجرة ما تخفيني عن الرؤية وتتيح لي مراقبة الشارع من بين الأوراق، وقفت في انتظار السارق وأنا أفكر في هذه الدناءة التي توصل إنسانا لسرقة القمامة، من المؤكد أنه أقذر منها.

قبيل ساعات الفجر جاءت سيارة لم أعرفها، ولم أعرف سائقها، ترجل من جانب السائق، تناول كيس القمامة وعاد للسيارة، حجبت عني السيارة الرؤية، فقد كانت بيننا، انطلقت السيارة في الطريق الترابي محدثة غباراً أحمر، تلونه الأضواء الخلفية للسيارة.

وأنا بدوري انطلقت خلفها أركض لأصل ذلك المتنزه بين شجيرات السريس والبلوط والصنوبر، كان العشب اليابس مبللاً بالندى فلا يصدر أي صوت فيما أطأه بقدمي، وصلت للمكان بينما لا تزال السيارة تسير في تعرجات الطريق الترابي، اختبأت خلف صخرة، كانت رائحة الصنوبر تفوح مع النسائم الباردة الرطبة، وصلت السيارة، توقفت ثم أطفأت مصابيحها، ترجل من بجانب السائق حاملاً كيس القمامة، لم أميزه. ثم جاء الآخر وأضاء مصباح هاتفه، وكان الأول قد أدار ظهره لي فلم أستطع معرفته، فشرع يمزق كيس القمامة ونثر محتوياته على الأرض وبدأ بتصويرها مثل محترف تصوير، حتى حذائي القديم كانت له عدة صور من عدستين، ضحكت وقلت: فعلا، حين يكون المخرج قذراً يصبح الحذاء نجماً سينمائياً.

 

مع التماعة فلاش الكاميرا كنت قد عرفت الوجه الأول الذي أصبح قبالتي. شعرت بشيء يندفع من معدتي، وبدأت أتعرق، كان العرق يسيل بارداً من كل مسامات جسدي، وكنت على وشك التقيؤ، ابتعدت عشرات الأمتار، حاولت أن أتقيأ لكن معدتي قد حجبت كل شيء فيها، عدت للبيت منهاراً، نمت كما لو أنني لم أنم منذ سنوات، استيقظت في ساعات العصر وعدت إلى أم النسايم، كانت الزجاجات المعلقة تصدر عند تلامسها لحناً ما لا أعرفه حقاً، لا أعرف حقاً إن كان يطرب العصافير أم يفزعها، وقفت أمام شجرة تتفرع بثلاثة أنواع؛ الخوخ والمشمش واللوز، كان أبي قد ركبها، وكانت تحافظ على الجذع الأصلي، جذع اللوز.

آه يا أبي، لو أنك علمتني كيف يركب البشر. أي تركيبة ركبت عليه، أي تركيبة قذرة وصلت جذوره؟

مرت الأيام وكنت كل يوم أجمع بقايا الدجاج.أضع بينها بضع ورقات من عملي في الترجمة وأضعها في كيس مغلق. أضعه عدة ساعات في الشمس لأشعره بقذارته، وأتخيله وهو يخرج الأوراق من بين القاذورات. يفتحها ولا يجد فيها شيئا ولا يجني إلا الروائح النتنة. بعد أيام عدة سئم من قمامتي وربما راح يبحث عن قمامة أخرى أكثر قذارة. وصار الوضع ملائما للعمل. فقد بددت بهذا شكوكه. وبدأت بالعمل.

فتحت باب الغرفة بعد أن غبت عنها سنوات، لا تزال كما هي، لم تدخلها سوى القطط وبعض العصافير التي يبدو بعض ريشها عالقا، وبعض أوراق الشجرالتي تراكمت على أرضيتها. رائحة الغرفة تبدو كما هي منذ دخلتها أول مرة قبل سنوات. لا أعرف ما هي الرائحة، لكنها ذاتها. آه لو كان البشريحافظون على ما بداخلهم كما تحفظ هذه الغرفة تلك الرائحة.

سارت أمور العمل كما ينبغي لها أن تسير.سلمت كمية من الأغراض الجاهزة لأبو عامر. وتعاونت معه في مهمة تكللت بالنجاح، التي أعادت ذلك الفرح السري الخفي الذي لا يعرفه إلا المقاوم. لكن شيئا ما ظل جاثما على صدري، ذلك الشيء الذي لم أكن يوما ما أتوقعه، التماعة مصباح الكاميرا وذلك الوجه. حدثت أبو عامر عن التفاصيل كلها بعد أن لاحظ ما بي.

 

كنا نجلس يومها تحت زيتونة في أم النسايم. ظل صامتا حتى انتهيت من السرد. تناول سيجارة من علبتي، أشعلها وسألني: ماذا ترى في الناس؟

لم أفهم سؤاله فسألت: كيف أفهم هذا السؤال؟

ودون أن يجيبني راح يتحدث. الناس نماذج. كل شخص يعتبر نموذجا وأيقونة لشخص ما. نموذج وفاء، نموذج بطولة، نموذج قداسة، نموذج حب، نموذج صدق، نموذج مقاوم...إلخ. وفي أعوام كثيرة أو قليلة أو أشهر أو أيام فإن التماعة مصباح أو إضاءة كالتي أرتك ذلك الوجه يسقط نموذج ما وتتهاوى أيقونة ما. قصف ورقة زيتون وراح يقلبها بين أصابعه واسترسل بحديثه: إياك أن تستخف بالوقت، إياك. فطالما تغير الحياة الكثير من الناس الذين تعول على تغييره ، بترهيبهم أو بترغيبهم. فربما يعرف طفل ما زيف بطولة والده. في كل لحظة تتكشف كذبة في هذا العالم. آه ما أصعب أن تهوي المنابر التي نحتذي بها. إنها تهوي مثل شيء ثقيل على جدار من جدرانك الداخلية تؤلمك وربما تكسرك. فحين تخذل، تمر أيامك مريرة وثقيلة على روحك، لكنها في النهاية تمر. وتخف وطأتها بمقدار ما تحصن نفسك من الداخل. راح يحدق في بنظرات أبوية حميمة وقال: المثل الشعبي يقول : من يمش على قدميه لا يحلف عليه. ثم ماذا كان بلال في السابق؟

فأجبت : كان فدائيا ولكن. وقبل أن أكمل قاطعني و قال: إذن كن فدائيا ولا تكن مثل أحد. لا تكن مثل بلال.

نظر إلى ساعته، وحدد لقاءنا القادم، وذهب.

هل كان علي أن أضع بلال القديم مكان بلال الفدائي في القمامة ليجد ماضيه في القمامة؟

كان بإمكانك يا بلال أن تتجذر في الأرض مثل شجرة، لكنك لم تتجذر. ومن لا يتجذر في الأرض فإنه سيصبح قمامة على سطحها