شبكة قدس الإخبارية

‏فادي وشحة وفلسطين..قلبان ينبضان بالحب والحرية

284364192_756991325488249_2830077382166601350_n

رام الله - خاص قُدس الإخبارية: حتى في لحظاته الأخيرة على قيد الحياة، كان فادي وشحة يصارع الموت لينجو مرة أخرى من رصاصة اخترقت رأسه، ليتوقف قلبه النابض حبا لفلسطين لثوان، ثم يعود وينبض من جديد. أما الدماغ فتوقف وأصبح في حكم "الميت"، فالرصاصة التي أطلقها الجندي الإسرائيلي لتغتال فادي وبعد محاولات سابقة، كانت تستهدف قتل فكرة "فلسطين والسعي لنيل الحرية" التي كان يؤمن بها، وفلسطين كانت دوما تحتل قلب وعقل فادي وشحة.

‏الجريح والأسير

‏34 عاما من عمر الشهيد فادي وشحة، أمضى منها بضعة سنوات في الطفولة، وما تبقى في حياة النضال والمقاومة والأسر. 16 عاما، منها أربع سنوات مطاردا ومطلوبا للاحتلال، يضاف لها ما مجموعه عشر سنوات في الأسر ما بين 2004-2019، وكان في عمر السابعة عشر عندما خاض تجربة الأسر لأول مرة، وبعمر الرابعة عشر عندما أصيب لأول مرة برصاصة خلال مواجهات عند مدخل البيرة الشمالي.

‏من بين عشرات المرات التي أصيب بها فادي خلال المواجهات التي اندلعت في ميادين عديدة بالضفة الغربية وكان جسده مثخنا بالجراح، دخل فادي مرتين في حالة الخطر على مدخل البيرة الشمالي، إحداها بعد تحرره من الأسر عام 2019 عندما استهدفت رصاصة رأس فادي وكان الدم يغطي وجهه، ليحاصره الجنود فورا، لكن بشجاعة وجرأة رأيناها سابقا، تمكنت طواقم الاسعاف من سحب فادي ونقله لمستشفى رام الله الحكومي، ليتبين وجود نقطة دم على الدماغ.

‏أمضى فادي خمسة عشر يوما يلازم فراش المشفى، فقد خلالها الرؤية ليوم كامل، وبعد خروجه ورغم عدم تماثله للشفاء التام، إلا أنه ذهب للمشاركة في مسيرة غاضبة نظمتها الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت- والتي كان طالبا فيها يدرس العلوم السياسية- ليتفاجئ الطلبة عند رؤية فادي والضمادة تحيط برأسه، يقف بينهم في نفس الميدان الذي أصيب به مؤخرا.

‏رفيق النضال شهيدا

‏في شهر فبراير/ شباط 2014 حاصرت قوات الاحتلال منزل الشهيد معتز وشحة ومنزل صديق فادي، حيث كان يتواجد برفقته، وعبر مكبرات الصوت طالبوا معتز بتسليم نفسه، فيما تم مداهمة واعتقال فادي وصديقه سامر، وخلال اقتيادهما كانا يسمعان صوت إطلاق نار وقصف صواريخ، دون أن يعلما أن معتز الذي رفض تسليم نفسه ارتقى شهيدا.

‏صديق الطفولة ورفيق دربه في النضال كان معتز وشحة، والذي علم باستشهاده داخل الأسر، في الوقت الذي كان يخضع فيه فادي بجسده النحيل للتعذيب، من أجل الاعتراف وتسليم السلاح الذي يتهمهم الاحتلال أنهم أطلقوا النار فيه على برج عسكري مقام على أراضي بلدة عطارة، وذلك قبل أيام من اغتيال معتز.

‏"أبو بارود" جندي للوطن

‏ أطلق فادي على نفسه لقب "أبو بارود" تيمنا بالأسير فاروس بارود من غزة، والذي ارتقى شهيدا داخل الأسر.

‏"لم يغب يوما فادي عن ميادين القتال أو الوقفات التضامنية في أي مناسبة وطنية، ورغم أي ظرف صحي ألّم به كان حاضرا، يتقدم الصفوف الأولى، مقداما شجاعا، لا يقبل إلا أن يقاتل من نقطة صفر، عينه بعين الجندي، لا يتراجع لأنه صاحب حق، يؤمن بنهج النضال ويرفض المفاوضات، فهو السبيل الوحيد الذي كان يؤمن به لتحرير أرض فلسطين واسترجاع الأرض المسلوبة. كان النضال وحب فلسطين يسري في دمه". موسى وشحة متحدثا عن شقيقه فادي لـ"شبكة قدس".

‏يضيف موسى أن فادي كان بالنسبة للجيل الصغير نموذجا وقدوة يُحتذى به، كانوا يرون كيف كان يتحرر من أسره ويضمد جراح الإصابات والعمليات الجراحية ويعود يقاتل من جديد، دون كلل أو ملل، وهذا ما جعله هدفا للاحتلال.

‏الحلم والحرية

‏محبا للحياة والحرية كان دائما فادي، وأكبر أحلامه وأبسطها أن يعيش في بيت قديم على أرض فلسطين وقد تحررت، يقوم بترميمه بنفسه، وذلك بعد أن ينهي دراسته الجامعية، ويعمل في مجال تخصصه، ويحلم أن يؤسس عائلة صغيرة ، يعيشون في كنف الحرية.

‏المطارد

‏بعد تحرره من الأسر عام 2019، خضع فادي لعدة عمليات جراحية نتيجة التعذيب، ومكث 50 يوما في المشفى، ليحاول بعدها فادي أن يعود لاستكمال دراسته الجامعية ومواصلة حياته، لكن من جديد أصبح فادي في دائرة الاستهداف، ليبدأ ضابط مخابرات الاحتلال في المنطقة بمهاتفة فادي واستدعائه لمقابلة في عوفر.

‏رافضا فكرة الاستدعاء عبر الهاتف، أو تسليم نفسه والخضوع للاحتلال كان فادي، وكان يرد على اتصالات الاحتلال، بأنه يريد مواصلة حياته، ولن يسلم نفسه. لم تتوقف مضايقات فادي عند هذا الحد، بل بدأت مخابرات الاحتلال باقتحام المنزل واستدعاء أشقائه، ومحاولة اعتقاله بإرسال قوات خاصة، والتي كانت تفشل في كل مرة باعتقاله، لأن فادي أصبح يدرك أساليب القوات الخاصة التي كانت تعتقله سابقا.

‏لم يعد البيت المكان الآمن الذي يستطيع أن يبقى فيه فادي على قيد الحياة، لا سيما بعد تهديدات مخابرات الاحتلال لشقيق فادي بالقول:"بدكم نجيبلكم فادي بشوال"، ليدرك فادي أن اعتقاله أو اغتياله مسألة وقت فقط، ليصبح مطاردا في الفترة الأخيرة.

‏أبو بارود..جريحا وشهيدا

‏في الخامس عشر من مايو/أيار 2021، عاد فادي لمنزله في بلدة بيرزيت، ليأخذ قسطا من الراحة قبل أن يتوجه لمسيرة غضب على مدخل البيرة الشمالي خلال حرب غزة "معركة سيف القدس"، والتي تزامنت مع ذكرى النكبة. طلب فادي من والدته أن توقظه الساعة 11 صباحا، وخوفا من عدم استجابتها لطلبه، هاتف شقيقته وطلب منها ذلك أيضا.

‏بعد أن أيقظته والدته، طلب فادي منها أن تُعدّ كاسة شاي له، ليصلي الظهر ويتناول الشاي سريعا، وارتدى ملابسه وخرج مهرولا على غير عادته، بعد أن سأل والدته إذا أرادت منه شيئا، فكان أخر ما سمعه منها "لأ يما سلامتك، الله يرضى عليك".

‏رغم أن المواجهات كانت على أشدها، لكن وفي لحظة هدوء حذر وفي منطقة بعيدة عن المواجهات، كان فادي يجلس على صخرة، عندما تم تبليغ جيش الاحتلال بمكان فادي، ليطلق قناص الاحتلال رصاصة واحدة فقط على رأس فادي، وفقا لما أفاد موسى نقلا عن شهود عيان.

‏توقف قلب فادي وعاد ينبض من جديد بعد عملية إنعاش، لكن الرصاصة أصابت جذع الدماغ ما أدى لعدم استجابته وتوقفه، ليخبرهم الأطباء أنه ما دام القلب يعمل، فسيبقى فادي في العناية المكثفة. هاتف الشبان عائلة فادي مباشرة، وتوجهوا لمجمع فلسطين الطبي، وفور وصولهم، هاتف ضابط المخابرات شقيق فادي وقال له:"شو نحكي الله يرحمه فادي"، وهو ما اعتبرته العائلة أن فادي تمت تصفيته واستهدافه.

‏ثمانية عشر يوما كان قلب فادي يصارع الموت، ليس رفضا للشهادة، وهو الذي كان يدرك دوما أن ثمن الحرية إما الاعتقال، أو الشهادة التي تمنى أن ينالها، لكن ليعود ويقاتل من جديد. أما والدته فكانت تواصل زيارته يوميا، قائلة لأولادها:"طالما فادي عايش لازم أشوفه وأبوسه".

‏في الثاني من يونيو/حزيران أعلن الأطباء عن استشهاد فادي وشحة. ليرحل شهيدا على هيئة مقاتل، يرتدي البدلة العسكرية وحذاءه، يتوشح بعلم فلسطين وعلى صدره وضعوا البندقية. سار فادي في مثواه الأخير عبر شوارع بلدة بيرزيت، وإلى جانب ابن عمه ورفيقه معتز وشحة، ووري جثمانه الثرى، لتحتضنه فلسطين في قلبها للأبد.

‏وصية وأمنية

‏"أتمنى أن يُهيئ الله لي معركة أقاتل فيها واستشهد، وأُبعث من جديد لأقاتل واستشهد" بهذه الكلمات كان فادي يُحدّث عائلته عن أمنيته، أما وصيته فكان يوصيهم بعدم دفن أحد بجانب معتز، وإذا استشهد أن يدفنوه بجانبه، كما كان يوصي عائلته بمناصرة الأسرى وعدم تركهم لوحدهم.

‏ كاسة شاي وجلسة مؤجلة

‏قبل استشهاد فادي بأيام، اجتمعت العائلة خارج المنزل لتناول وجبة الافطار في شهر رمضان، التقى فادي معهم، وغادر برفقة شقيقته رانيا سريعا، أوصلها لمنزلها وقبل أن يغادر طلبت منه راجية أن يبقى ويتناول كاسة شاي، فرد عليها "بنشربها بالعيد"، فكررت رجاءها ليطلب منها إعداد الشاي وإذا تمكن سيعود ويجلس معها، لتكن تلك المرة الأخيرة التي شاهدت رانيا شقيقها وتحدثت معه، لكن دون أن يعود.

‏تستعد رانيا خلال أشهر قليلة لإطلاق روايتها عن حياة شقيقها الشهيد فادي، والتي بدأتها دون تخطيط، كملاذ تعبّر فيه عن حزنها وفقدانها لشقيقها، فكان فادي سابقا يطلب منها كتابة شعارات خلال إضراب الأسرى.

‏عن فادي في ذكراه

‏يعود موسى ورانيا بذاكرتهما سنوات للوراء، تزخر بمواقف وصفات عديدة، فمنذ طفولته كان فادي جريئا شجاعا، عنيدا متحديا، يحب الرسم، ويمارس هوايته بالأعمال الحرفية، لا سيما العمل الخشبي، فيصنع البواريد ويوزعها على الأطفال، لا يفارق صديقه معتز، يلعبان "جيش وعرب".

‏فادي الابن الثاني عشر من بين ثلاثة عشر، مرحا، يتميز بطيبة قلبه لا سيما مع الأطفال والأسرى الأشبال، كان كريما ويبادر لفعل الخير وخدمة الجميع، يكره أن يأكل وحده، ويحب أن يشارك الأخرين بالطعام، محبا للحيوانات، ويكره أن يرى عصفورا في قفص، قائلا:"ربنا خلقه حر، ليش الناس بتحبسه". بهذه الكلمات تصف رانيا شقيقها.

‏تستذكر رانيا كيف كان فادي يجلس بجانبها ويعرض صورا لشهداء على هاتفه، ويقول لها:"الشهيد لازم يتكفن بالبدلة العسكرية وفي حذاء المقاومة"، موضحة أن فادي كان دوما يؤمن أنه جندي في خدمة الوطن.

#فادي وشحة