بعد خمسة وخمسين عاماً من استكماله احتلال المدينة، بات المحتل يختزل سيادته المزعومة على القدس في ثلاثة عناصر رمزية لا يمكن للقوة المسلحة أن تحسمها، وهو ما يجعله اليوم يخوض معركة هوية القدس بعيداً عن مصادر قوته ويشكل فرصة لإلحاق الهزيمة به:
الأول: العلَم، فمنذ 1968 كرس المحتل استعراض الأعلام الصهيونية في مسيرة تدور حول البلدة القديمة باعتباره عنوان حضوره وسيطرته على المدينة، ذلك أن المركز التاريخي للقدس كان ما يزال عربياً مقدسياً فكان اختراقه بهذه المسيرة هو عنوان الوجود الصهيوني المستجد. اليوم وبعد 55 عاماً من الاحتلال وهدم البيوت والمصادرات، ما يزال هذا المركز التاريخي عربياً بـ94% من سكانه، ولم يشكل الاختراق الصهيوني فيه أكثر من6%، فتراهم يرفعون الأعلام على كل الأسطح والنوافذ والأبواب في كل بيت يسيطرون عليه ليعوضوا نقص الحضور في العاصمة المزعومة.
مرت 55 سنة وما تزال مسيرة الأعلام وسيلة الاحتلال السنوية المركزية في إثبات الهيمنة، واليوم إذا ما قرر أهل المدينة وأصحابها أن يرفعوا علماً فوق كل بيت وفي كل شارع وفي كل ساحة فإن أعلام المحتل التي تحملها المسيرة لن تكون أكثر من بفعة صغيرة في بحر من الأعلام الفلسطينية، فيمسي بذلك موسم استعراض الهيمنة موسماً لتثبيت الفشل ولاستعراض الصمود المقدسي الطويل إذ يطرح ثماره.
أما رمز السيادة الثاني فهو ساحة باب العامود، التي تحولت في العام الماضي إلى عنوان هزيمة وإذلال للمحتل وتكرر ذلك في رمضان القريب، فتحول الإصرار الصهيوني على قضمها وتهويدها إلى عقدة مزمنة، فباتت هذه الساحة حيزاً يختزل الاحتلال سيادته المزعومة فيه، فكأنه إن دخلها كان "سيداً" للمدينة كما يتوهم وإن مُنع منها اهنزت "سيادته". وهذه الساحة التي تقع على مدخل البلدة القديمة الشمالي، والمطوقة بالأحياء العربية رغم الشوارع العريضة والبنى التحتية التي تحاول إبعادها، يمكن دوماً تحقيق حضور مقدسي كبير فيها أو من حولها على الأقل، وتحويل كل محاولة مرور صهيوني منها إلى ملحمة محفوفة بالرفض والمواجهة، فسواء مرّ أم لم يمر فالنتيجة أن من لا يستطيع مجرد المرور من ساحة عامة في المدينة دون خوض معركة لا يمكن أن يزعم أنه عاصمته أو تحت سيادته بحالٍ من الأحوال.
أما العنوان الثالث والأحدث فهو استعراض الطقوس التوراتية الجماعية في الأقصى، فمع تطور الخطط المرحلية للإحلال الديني في الأقصى من التقسيم الزماني إلى التقسيم المكاني ثم إلى التأسيس المعنوي للهيكل المزعوم عبر إحياء طقوسه في الأقصى، لم يعد مجرد الاقتحام كافياً، بل بات من المطلوب والضروري في وعي اليمين الصهيوني استعراض الحضور الديني اليهودي في الأقصى عبر الطقوس والتوراتية، وما لم يتم ذلك فصورة النصر لم تتحقق. تمكن الرباط في وجه الاقتحام من منعه في 28 رمضان في صيف 2021، وتمكن من تحويله إلى مرور متعثر تحت ضغط الرباط والإرباك الصوتي والألعاب النارية في رمضان هذا العام، وفي كلتا الحالتين فهي صورة تراجع في الوعي الصهيوني.
اليوم يجمع المحتل الصهيوني هذه العناصر الثلاثة معاً في يوم واحد هو يوم الأحد 29-5، في الذكرى العبرية لاحتلال القدس –أو ما يسميه "توحيد القدس"- فيمسي هذا اليوم بذلك تكثيفاً لمعركة السيادة على المدينة بالعناوين الثلاثة التي اختزلها: مسيرة الأعلام، ودخولها من باب العامود، واقتحام المسجد الأقصى صباحاً.
في مواجهة ذلك هناك ثلاثة عناوين تصدي قادرة على إفشال استعراض السيادة في وجهه الثلاثة: رفع العلم الفلسطيني، والحضور بكثافة في ساحة باب العامود، والرباط الصباحي في الأقصى. وإذا ما وضعنا في الاعتبار العنصر النفسي، بأن المحتل يقبل على هذه المواجهة مدفوعاً باستعادة الثقة بالنفس بعد هبة باب العامود ومعركة سيف القدس وهبة الكرامة في 2021، وملحمة رمضان والجنازتين في 2022، فهو ينظر لهذا اليوم باعتباره يوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل سيف القدس ومعادلتها، إلى العودة للتصرف في القدس بعيداً عن حسابات ردع فرضتها عليه تلك الأحداث رغم أنفه.
أما على جبهة المقاومة المسلحة، فقد بات واضحاً أن وسيلة المحتل في تمرير عدوانه بعيداً عن تدخلها هي الضغوط السياسية –التي تسمى زوراً بالوساطات- مع تعزيزها بتهديدات عالية السقف يعلم المحتل قبل غيره أنها غير ممكنة. الضغوط التي تطالب بعدم الرد عبر البوابات الرسمية العربية والإسلامية ثبت بالتجربة في رمضان أنها ليست سوى امتداداً سياسياً للعدوان على الأقصى، تضمن حصوله دون رد مكلف، وما دامت تلك الضغوط جزءاً من العدوان فلا مفر من شق طريقٍ لتجاوزها، وتعزيز معادلة القوة الفلسطينية الحالية بشقيها: الإرادة الشعبية والمـقاومة المسلحة، وتحقيق تكامل بينهما يصوغ معادلات جديدة.