عقب نشر بعض الفصائل الفلسطينية صوراً لمعسكرات التدريب التي أنشأتها لتدريب الأشبال على السلاح، خرجت موجة من الانتقادات قادها "الشباب الفلسطيني الناشط"، تتراوح ما بين لومها على نشر الصور حفاظاً على صورة "الفلسطيني الأليف" لدى ما يطلق عليه اصطلاحا المجتمع الدولي (داعمي "اسرائيل")، وما بين مقولات ترى أن مثل تلك الأفعال تؤدي إلى سلب الناس حياتهم "الطبيعية" وحرياتهم من خلال "عسكرة المجتمع" والأجيال الناشئة، وأن السلاح دون ثقافة كمن يرمي بنفسه للتهلكة، وعلى الأغلب كان المقصود بالثقافة هو ذاك الكم الهائل من الكتب التي كان يجب على الأشبال قراءتها قبل حملهم للسلاح، متجاهلين أن تلك المعسكرات هي بذاتها "ثقافة" ومنتجة لها، ولكنها "ثقافة" خاصة بها ومن نوع آخر، ومتغاضين عن/ومهمّشين لنماذج سطّرتها المقاومة الفلسطينية بالدم والصمود كـ "أطفال الـ RPG" في لبنان.
هذه المقولات آنفة الذكر، ذهبت بعيدا عن الواقع الفلسطيني والعالمي، وصوّرتها كما يصوّرها صائب عريقات في مؤلفه على أن "الحياة مفاوضات"، ولكن يعطينا هاني الراهب في روايته "خضراء كالبحار" تصوّراً آخر لها، لا يقف عند حدود ما يتم الترويج إليه غربياً من نماذج وأفكار وآراء، ولا فلسطينياً، فيقول: "قبل عام و نيف قالوا إن الحرب انتهت. و كانوا يقصدون المدافع و الدبابات، والجنود المدججين بتكنولوجيا القتل. بالنسبة لفراس فإن الحرب لم تنته. الحرب مثل أمواج البحار، لا تنتهي. أنت تعيش بين الناس في حالة حرب. وأنت وهم في حالة حرب مع أناس آخرين. الحياة نفسها حالة حرب. ولكن من هذه الحالة يولد الحب والفن، وتولد الإنسانية".
ولنخرج من حصار التنظير لـ "الحياة الطبيعية" التي تقودها المؤسسات الرسمية الفلسطينية في رام الله وبعض الناشطين الشباب أكان بعضهم على علاقة بها ولم يكن البعض الآخر، وأن السبيل لمواجهة أخطاء حكومة حماس في غزة فيما يتعلّق بادارتها للقطاع لا يكون بهذا الشكل؛ كان لزاما أن تُروى قصة تتكرر في المشهد "العالمي"، ربما ابتدأ رصدها مع قصف السودان في المرحلة الماضية، ولم تنته بسوريا إلى الآن. على أنه لا يجدر قراءة ما يلي على أنه توجيه للإدراك إلى أن المجابهة والحروب لا يمكن لها أن تتم إلا بالنموذج الغربي للحرب، بل هو تأكيد على مقولة الراهب، وتحديد لأولوياتنا في ظل العدوان المستمر.
مجتمعات الحرب
ليس إدراكنا المتأخر لاتساع المجال العسكري-الاستخباراتي ليشمل استدخال مشاريع خاصة بمجهود "مدني" في إطار تكامل المنظومة الاستعمارية الغربية في عصر الحداثة والرأسمالية المتأخرة، كالمشروع الذي أنشأه ممثل هوليوود جورج كلوني تحت عنوان "مشروع القمر الصناعي الحارس"، وروّج إليه في مؤتمر أشبه ما يكون ب "حفلات الكوكتيل"، ليضمن التمويل والدعم تحت غطاء "تحوّل في نموذج الدعم والتدخل الإنسانيين" كمبرّر للتجسس على السودان، والذي من المرجّح بشكل كبير أن شكّل مصدرا أوليا للمعلومات للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي قامت بضرب مجمّع اليرموك العسكري وقوافل أسلحة، نظرا إلى نشر المشروع صورا لما قبل-بعد الضربة الجوّية في إشارة إلى مراقبة القمر الصناعي والقائمين عليه تلك المنشأة على مدار الساعة، وخصوصا إذا ما علمنا أن المشروع هو بالتعاون مع شركة تجارية للأقمار الصناعية تدعى Digitalglobe، التي وفّرت بالمجان الصور المستخدمة –والتي تكلف الواحدة منها آلاف الدولارات-، وأن نائب رئيس مركز التحليل التابع للشركة هو محلل معلومات سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الCIA؛ ليس ذلك هو ما سيجعلنا نشعر بضيق في التنفّس.
وإنما ما نشرته البوسطن جلوب في التاسع والعشرين من أبريل 2012، من تحقيق صحفي حول الموضوع، وما تناولته خصوصا حول مجموعة من المتطوعين في هذا المشروع تحت عنوان: "من داخل مختبر التجسس التابع لهارفرد: كيف كان لمجموعة من "متفوقي" (مهووسي) هارفارد، يستخدمون قمرا صناعيا بالإضافة إلى بعض العون من كلوني، أن يعيدوا كتابة قواعد التدخل الإنساني". (بعض من المعلومات السابقة من ذات التحقيق).
[caption id="attachment_19081" align="aligncenter" width="519"] صورة لمجموعة هارفرد التي يتحدث عنها التحقيق الصحفي[/caption]غرفة العمليات وجنرالات دون زي عسكري
في مشهد درامي وتشويقي "حقيقي" لغرفة العمليات، لا تخلو من رائحة استشراقية تفوح من ساندويشة الفلافل الوحيدة الموضوعة على الطاولة إلى جانب كاسات القهوة الأمريكية وأجهزة الكترونية في معظمها حواسيب نقّالة، وفي إشارة إلى مشاركة العبد للمجهود الحربي لسيّده، وكـ "شؤون عربية وعلاقات خارجية" متداولة بمعنى مستباحة، يفتتح كاتب التحقيق مقالته عن مجموعة من المتطوعين المشاركين في المشروع في إحدى قاعات جامعة هارفارد، يظنّ الناظر إليهم للوهلة الأولى أنهم في حلقة دراسية لطلبة الدراسات العليا.
مجموعة من المتطوعين توجّب عليهم في إطار مهمّتهم أن يتعلموا كيفية التفكير كما لو كانوا قادة عسكريين، أصغرهم تبلغ من العمر الثالثة والعشرين، "جنرالة" ترتدي فستانا ارجواني اللون، منسقة المشروع لتحليل البيانات، تقف قبالة "بروجيكتر" يُعرض عليه صور من القمر الصناعي المسلّط على المناطق السودانية، مستعرضة تحركات القطع الحربية السودانية وقواتها والخصوم، تتساءل مع المتطوعين عن سبب تلك التحركات وسيناريوهاتها المحتملة "في إطار النزاع السوداني-السوادني".
ثم يبدأ الفريق بتقاذف الأفكار حول إمكانيات المشهد والأحداث، مستخدمين عبارات سينمائية في بعض الأحيان تلقّفوها من أفلام هوليوود، إلا انه مع كثرة الأفكار وصعوبة تحديد الموقف من حيث انه حاسم، يقرّر الفريق فض الحلقة كما هي العادة في كل يوم قرابة الساعة التاسعة مساء، في انتظار صور جديدة من القمر الصناعي تصل في الغد، ويتخلل ذلك مقولة لجنرالة أخرى في سنتها الدراسية الثانية في جامعة هارفارد:"انه أمر مثير للإدمان، أليس كذلك؟"، مستطردة بالقول:" الآن، يجب علي دراسة امتحان الساعة العاشرة صباحا ليوم غد".
"جنرال" آخر منكوش الشعر يبلغ من العمر الرابعة والثلاثين وهو أكبرهم، مدير عمليات المشروع، يقول:"نحن لا نمحّص التقارير من أجل إنشاء أرشيف ثابت للأحداث، نحن فعليا نقوم بالتأثير على طرق "الجُناة" في اتخاذ قراراتهم". سبق حديثه ذلك إشارة الكاتب إلى رايموند (أكبرهم) والآخرين، أنهم وان كانوا "يكدحون" على حواسيبهم المتنقلة في العالم الافتراضي وفي النصف الثاني من الكرة الأرضية (أي بعيدين عن أرض المعركة وعنفها)، إلا أنهم جميعا يعانون مما سمّوه "أحلام السودان" كما يروون، ففيها يطلقون النار ويُطلق عليهم النار، مستتبعا ذلك بمقولة لرايموند:"هناك علاقة حميمية هائلة مع العنف". ويضيف رايموند في مكان آخر، في نقده للمؤسسات الأكاديمية والأكاديميين بسبب محاولة القاء ثقلهم ووزنهم المعرفي على ظلال المشروع:"تبالغ الناس في تقدير الخبرات، التفكير النقدي والقدرة على تعلّم الأنظمة المعقدة أكثر أهمية من شخص يدخل علينا بشهاداته الدكتوراه الستّة".
تلك المجموعة على حدّ وصف الكاتب تمتاز بتبجحهم بغرفة العمليات الحربية التي يجتمعون فيها وينتمون إليها، والجدّية التي لا تبغي الربح. وهذا ما يعلّق عليه جورج كلوني عندما يقول:"مستوى خبراتهم مدهش، ولكن ما هو أكثر من ذلك مدى التزامهم، أحيانا يسهرون الليل بطوله محاولين اكتشاف الأشياء، ليس لسبب أكثر من محاولتهم "إنقاذ الأرواح"، ولا يحصلون على قدر كاف من العرفان والتقدير".
بهذا القدر سأكتفي من الاقتباس بتصرّف من التحقيق الصحفي، واضعاً مجموعة من الصور أولها لمجموعة هارفارد التي تناولت الموضوع السوداني، والأخرى لمجموعة أخرى تابعة لمركز بحثي أمريكي يتناولون فيها الموضوع السوري، لعلّ القارئ لهذا المقال سيعيد النظر في بعض المقولات التي أصبحت –أي المقولات- لا تفارق الفلسطيني وعقله، حول ما هو ضروري وما هو غير ضروري.
فلدى المُعتدي (المستعمِر) ترف الاختيار من متعدد في حياتهم اليومية ولكن لا ننسى أن هنالك بالضرورة من هم متواجدون بشكل دائم لضمان ديمومة الاعتداء التي تضمن بدورها ديمومة ترف الاختيار الذي يحظى به المُعتدي نتيجة اعتدائه المستمر، أما المُعتدى عليه فحريته تكمن في اطلاق مسيرته نحو التحرر، وإلا ما قيمة الحريات والبستار العسكري للمحتل حاضر فوق أعناقنا إن لم تساهم في تعزيز المقاومة وصولا؟ إذن هي ضمان مستقبل أجيالنا اللاحقة. إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ.. لكن خلفك عار العرب لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرب! إن عرشَك: سيفٌ وسيفك: زيفٌ إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف واستطبت- الترف امل دنقل [caption id="attachment_19085" align="aligncenter" width="576"] مجموعة تابعة لمركز بحثي أمريكي مهتم بدراسة الحرب وشؤونها. نشرت هذه الصورة تحت عنوان: تحليل صوري للأحداث في غرب سوريا[/caption] [caption id="attachment_19071" align="aligncenter" width="576"] نفس المجموعة التابعة للمركز البحثي الأمريكي[/caption] [caption id="attachment_19089" align="aligncenter" width="576"] صورة لنفس المجموعة. عنون مركز الابحاث هذه الصورة المنشورة على صفحته على الفيسبوك بـ "النجاح"[/caption]