كغيره من المشاهد والحالات المتشابهة والمتكررة، مرّ حدث تأمين أجهزة السلطة المستوطنيْن اللذين دخلا مدينة رام الله قبل بضعة أيام، مرور الكرام، فخلال دقائق حمت تلك الأجهزة المستوطنين من غضبة الشبان الفلسطينيين على دوار المنارة، وأعادتهما بسلام إلى أيدي الجيش الإسرائيلي، الذي كان يتوعد المدينة بتصعيد عالٍ في حال لحق بالمستوطنين أذى.
لم يكن هذا بطبيعة الحال أول حدث من هذا الطراز، فقد سبقته حوادث مماثلة كثيرة، وكلها شهدت أداءً رفيع المستوى من ناحية الدقة والانضباط لأجهزة السلطة، وهي تعيد للإسرائيليين كل من ضلّ منهم طريقه في شوارع الضفة، ودخل (عن طريق الخطأ) مناطق السلطة، ولذلك بدا الحدث متوقعًا ومتفهمًا وطبيعيًا، وعكسه هو الفعل الجنوني، أي أن تتغاضى أجهزة السلطة عن المستوطنين وتتركهما لمصيرهما، وفق ما يمكن أن تترجمه الإرادة الفلسطينية الغاضبة، أو أن يبلغ الجنون مداه بالسلطة فتقرر الاحتفاظ بالمستوطنين، والمطالبة بمبادلتهما بأسرى فلسطينيين أو حتى أسير واحد!
هذا المستوى من الجنون ليس مستوعبًا بطبيعة الحال ولا متوقعا، حتى لدى من أشادوا بالفعل البطولي للشبان واحتفوا به، عندما أحرقوا سيارة المستوطنين وسط رام الله، غير مبالين بالملاحقة المتوقعة لهم من أجهزة السلطة والاحتلال، التي لن تمرر حادثة الحرق ولن تنسيها إياها سلامةُ المستوطنيْن، صحيح أن نكات سياسية عديدة أطلقت في فضاء مواقع التواصل حول سلوك السلطة، لكنّ أحدًا لم يطرح مطالبة جدية أو سؤالًا فحواه: لماذا لم تحتفظوا (بالغنيمة) التي وصلت إلى عمق مناطق السلطة؟
هذا الطرح الذي يبدو لنا جميعًا جنونيًا حين يُطلق في الفضاء الذي تحكمه السلطة، أي الضفة الغربية، هو ذاته سلوك طبيعي في غزة، حيث تغيب تلك السلطة، وحدث مرارًا رغم الضريبة التي ترتبت عليه، في الأرواح والممتلكات، بعد كل عمليات أسر جنود الاحتلال في غزة، ثم صار جيش الاحتلال يحسب ألف حساب لأي عملية توغّل داخل القطاع، سواء أكانت اجتياحًا بريًا في أيام الحرب، أم عملية أمنية محدودة لغرض اغتيال أو اختطاف، كما حدث في نوفمبر 2018 حينما أفشل جنود القسام في خانيونس عملية تسلل الوحدة الإسرائيلية (سييرت متكال)، وقتلوا ضابطًا فيها وأصابوا آخرين، فيما تكبدّت كتائب القسام سبعة من جنودها، على رأسهم القائد فيها (نور بركة) رحمهم الله.
المعنى هنا، أن الوعي الجمعي قد تبرمج تلقائيًا على توقّع الفعل العالي من الجبهات التي لا تهيمن عليها السلطة، وتوقّع المواقف الرخيصة أو الصغيرة من مجالات سيطرتها، ولذلك لم يطرح ذلك السؤال الجدي، في جوهره ومعناه: لماذا لم تحتفظوا بالمستوطنين؟ وبدا أن تسليمهم (عين العقل) لتجنيب الضفة الغربية أثر غضبة صهيونية، مشابهة لما حدث عندما تم أسر ثلاثة مستوطنين شمال الخليل عام 2014، أو عندما قُتل جنديان صهيونيان في المكان ذاته في رام الله مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000.
والمعنى كذلك، أن في الإشادة بفعل إحراق سيارة المستوطنين الفارغة إشارةً إلى حجم الهوان الذي أنتجته سياسات هذه السلطة في واقعنا، وإلى العار المتمثل في فعلها، لأنها لا تبرع إلا في حماية عدوّها، فهي تكرم المستوطن وتهين الفلسطيني، عمومًا بعجزها عن الدفاع عنه، وخصوصًا بملاحقة صاحب الموقف والرأي والنشاط والفعل الوطني والمقاوم، ولا يسلم منها حتى لو كان أسيرًا محررًا لتوه من سجون الاحتلال، تعتدي على موكبه لتجرده من مظاهر احتفاله!
ثم بعد كلّ هذا هل لأحد أن يتساءل، وهل لهذه السلطة أن تنزعج من هتاف الناس (للضيف) في شوارع رام الله، بينما كانت ألسنة النار تلتهم سيارة المستوطنين؟ فما كان ذلك الهتاف فقط تمجيدًا للعنوان الذي حفظ كرامة الفلسطيني حين دفع الدم والأعمار واحتمل الحصار ليصنع جبهة عنيدة مقاتلة، بل كان في الهتاف أيضًا إهانة وازدراءً لصانعي العار في زماننا الفلسطيني هذا، حتى وهم يحملون البنادق ويمارسون طقوس السيادة الزائفة، لكن قلوب وعقول الفلسطينيين ما عادت تلتفت نحوهم، أو ترجو منهم مثقال ذرة من خير.