قُدس الإخبارية: في الجزء الثاني من مقاله اعتبر أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد، يوغين روغار، وصف قرار المملكة المتحدة الذي اتخذته قبل أكثر من قرن، بأنه "خطأ قاتل في فلسطين".
إليكم نص المقال كما ترجمه موقع "عربي 21":
الغاية المنشودة للإمبراطورية
"عالة وأهل للثقة"، تلك كانت الغاية المنشودة من قبل الإمبراطورية البريطانية. كان الفرنسيون قد سبقوا البريطانيين إلى سياسة استخدام الأقليات، ومن تلك الأقليات المجتمع الماروني في جبل لبنان. وفعلاً ما كان من المارونيين إلا أن ضغطوا بقوة من أجل إقامة الانتداب الفرنسي. وحاول الفرنسيون إقامة مثل تلك العلاقة مع مجتمعات العلويين والدروز في سوريا، فودعوهم بدويلات صغيرة وبحكم ذاتي تحت مظلة الانتداب الفرنسي في سوريا.
من طرفهم، توجه البريطانيون نحو أبناء الشريف حسين، شريف مكة، في سياسة عرفت بالحل الشريفي، والمتمثل بتنصيب الشرفاء الهاشميين على عروش شرقي الأردن والعراق. أما وقد غدوا غرباء في الممالك التي نصبوا عليها وبدون قاعدة شعبية تساندهم وبلا استقلال مالي، فقد كانت بريطانيا على ثقة تامة في أن الأمير عبدالله، الذي نصب على شرقي الأردن، والملك فيصل، الذي نصب على العراق، سيكونان عالة عليها، وستضمن بذلك ولاءهما لها، كشريكين في إدارة تلك الدول. إلا أن بريطانيا لم يكن لديها حل شريفي تطبقه في فلسطين، فكان مجتمع المستوطنين الصهاينة هو الذي أوكل إليه ذلك الدور.
ولكن الصهاينة سيظلون عالة وموضع ثقة طالما بقوا أقلية، ولكن فيما لو أصبحوا هم الأغلبية في فلسطين فسوف يسعون للاستقلال. ولم تكن لدى بريطانيا شكوك بشأن الطبيعية القومية للحركة الصهيونية.
وفي عام 1922 أصدر رئيس الوزراء البريطاني ونستون شيرشل ورقته البيضاء التي من جهة ذكرت السكان اليهود في فلسطين بمحدودية الالتزام البريطاني تجاههم ومن جهة أخرى أريد منها تهدئة العرب الفلسطينيين وتخفيف حدة معارضتهم لبريطانيا. في تلك الورقة استبعد شيرشل أن تكون فلسطين "يهودية كما أن إنجلترا إنجليزية" كما استبعد "اختفاء أو إخضاع السكان العرب، لغة أو ثقافة، في فلسطين." وأكد أن بنود وعد بلفور "لا ترى أن فلسطين بأسرها ينبغي أن تتحول إلى وطن قومي يهودي، ولكنها ترى أن مثل ذلك الوطن ينبغي أن يقام في فلسطين."
ما كان يقوله شيرشل هو إن على المجتمع اليهودي في فلسطين أن يبقى مجتمع أقلية مدمجة، وضمن تلك الحدود بإمكانهم أن يتوجهوا إلى بريطانيا لتدعم مشروع الوطن القومي اليهودي.
صراع عصي على السيطرة
بالطبع لم يتوصل البريطانيون بتاتاً إلى نقطة توازن بين دعم مشروع الوطن القومي اليهودي والحفاظ على السلام في فلسطين. وبعد موجة من أحداث الشغب في عام 1929، نظم البريطانيون سلسلة من التحقيقات وأصدروا سلسلة من الأوراق البيضاء على خلفية ارتفاع معدل الهجرة اليهودية بعد استلام النازيين للسلطة في ألمانيا ما بين عام 1931 وعام 1933، وسن قوانين نورمبيرغ المعادية للسامية في عام 1935.
كان متوسط عدد المهاجرين في العام الواحد في سنة 1930/1931 حوالى خمسة آلاف مهاجر، ثم ارتفع الرقم إلى 9600 في عام 1932 ثم إلى 30000 في عام 1933 ثم إلى 42000 في عام 1934 ووصل ذروته في عام 1935 ليصبح 62000. بحلول عام 1936 كانت نسبة السكان اليهود في فلسطين قد ارتفعت من أقل من 10 بالمائة إلى أكثر من 30 بالمائة من مجمل تعداد السكان في فلسطين، والحبل على الجرار.
ضاعفت الهجرة اليهودية وشراء الأراضي من الآثار الاقتصادية للركود الكبير، وساهم ذلك في زيادة البؤس والقلق في أوساط السكان الفلسطينيين العرب. وفي عام 1936 انتفض الفلسطينيون في ثورة عارمة ضد الانتداب البريطاني وضد المجتمع اليهودي الذي كان يتمتع برعاية ذلك الانتداب.
تمكن البريطانيون من إحراز توقف في المرحلة الأولى من الثورة العربية من أجل ابتعاث لجنة تحقيق أخرى. ولكن عندما أصدرت لجنة بيل تقريرها في 1937، كان ذلك بمثابة إعلان صريح منها بأن الانتداب قد فشل. جاء في التقرير ما يلي: "لقد انفجر صراع عصي على السيطرة بين مجتمعين قوميين داخل الحدود الضيقة لبلد صغير واحد. دخل ما يقرب من مليون عربي في صراع، صريح أو ضمني، مع أربعمائة ألف يهودي. لا يوجد بين الطرفين أرضية مشتركة. فثقافتهما وحياتهما الاجتماعية وسبل تفكيرهم وسلوكهم غير منسجمة كما أن تطلعاتهما الوطنية غير منسجمة. وهذه هي أكبر عقبات في طريق السلام."
بمعنى آخر، أقرت بريطانيا للمرة الأولى خلال عشرين عاماً منذ وعد بلفور بأن انتدابها فجر صراعاً بين قوميتين متعارضتين ومتنافستين، إحداهما فلسطينية عربية والأخرى صهيونية. طبقاً للجنة بيل يمكن لهذا الوضع أن يحل فقط من خلال إنهاء الانتداب وتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين إحداهما يهودية والأخرى عربية، تحكمان من خلال معاهدة تبرم مع بريطانيا "طبقاً للسابقة التي تكرست في العراق."
لتكن تلك أول إشارة إنذار لك حول إلى أي مدى أرادت بريطانيا للدولتين اليهودية والعربية أن تكونا مستقلتين. فالمعاهدة الإنجليزية العراقية أبقت العلاقات الخارجية والشؤون العسكرية في يد البريطانيين بطرق أعادت بكل بساطة هيكلة العلاقة الاستعمارية ... نمط من الإمبراطورية من خلال المعاهدة.
إعادة هيكلة العلاقة الاستعمارية
بإمكاني الجزم بأن توصيات لجنة بيل كانت تدور حول إعادة هيكلة العلاقة الاستعمارية في فلسطين ولكن ليس إنهاءها. ابدأ بخارطة التقسيم لعام 1937 وستجد أن لجنة بيل خصصت تقريباً ثلث الأرض للدولة اليهودية بحيث تمتد من الطرف الشمالي من الجليل جنوباً لتشمل صفد وطبريا والناصرة والتخم الذي يستدير نحو الغرب عند بيسان، ويدخل فيها السهل الساحلي من عكا وحيفا وصولاً إلى تل أبيب ويافا ... قطاع من الأرض على شكل حرف إل.
يتضح لك أمران عندما تتأمل في الخارطة، أما الأول فهو أن بريطانيا ركزت الموانئ المهمة والمراكز الاقتصادية في فلسطين ووضعتهم ي أيدي شركائها الصهاينة. وأما الأمر الآخر، وهو الأبرز، فيتمثل في أن هذا البلد بالغ الصغر سوف يبقى إلى الأبد عالة يعتمد على الحماية البريطانية في مواجهة الجيران العرب في لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية، والذين لم يكن عداؤهم للمشروع الصهيوني يخفى على أحد.
أي أنه بدلاً من الإقرار بالدولة للحركة الصهيونية، عكف البريطانيون على إعادة تنظيم مركز الجاذبية الاقتصادي في الانتداب على فلسطين ووضعوا الأراضي تحت إدارة شركائهم الصهاينة العالة عليهم الموالين لهم.
كان هذا الانكفاء إلى الشركاء العالة والموالين جلياً بنفس القدر في خطط لجنة بيل لفلسطين العربية، حيث كان من المفروض أن يتم توحيد ثلثي الأراضي الفلسطينية المتبقية مع شرقي الأردن تحت حكم عبدالله وأن يُستبدل الانتداب على شرق الأردن بالاستقلال. بمعنى آخر، كان البريطانيون في نهاية المطاف يسعون لتطبيق الحل الشريفي على فلسطين، من خلال وضع تلك الأرض المتقلقلة تحت سيطرة حاكم عالة عليهم وموال لهم – هو عبدالله.
لم تكن خطة بيل للتقسيم في عام 1937 دعوة للاستقلال اليهودي ولا للاستقلال الفلسطيني، بل كانت بدلاً من ذلك جهداً غايته إعادة هيكلة العلاقة الاستعمارية في محاكاة لنموذج العراق الذي خضع للتجربة من قبل، وذلك تمهيداً لإغلاق الانتداب المعطوب وإعادة هيكلة العلاقة الإمبريالية في امبراطورية قائمة على المعاهدة.
استقلال جزئي
لعل من نافلة القول أن الرفض الفلسطيني لتقرير بيل تمخض عنه عامان آخران من التمرد الضاري، مما فرض على البريطانيين نشر 25 ألف جندي وشرطي لإخماد الثورة العربية.
أصدر البريطانيون من أجل استتباب السلام ورقة بيضاء أخيرة في عام 1939 أنهت تماماً موضوع التقسيم. طالبت الورقة بقصر الهجرة اليهودية على 15 ألف مهاجر في العام على مدى خمسة أعوام أو ما مجموعه 75 ألف مهاجر جديد. كان من شأن ذلك أن يوصل نسبة السكان اليهود في فلسطين إلى 35 بالمائة من إجمالي عدد السكان، على ألا يسمح بأي هجرة إضافية بعد الخمسة أعوام بدون موافقة الأغلبية، ومعروف مسبقاً ما هو رأي الأغلبية في هذه المسألة.
كان من المقرر أن تحصل فلسطين على استقلالها في عام 1949 (ومرة أخرى يفترض في ذلك أن يكون استقلالاً من النوع الجزئي الذي منحه البريطانيون من قبل للعراق والآن لمصر بحلول عام 1939) ويكون الحكم فيها للأغلبية.
ما كان ملفتاً للانتباه في الورقة البيضاء لعام 1939 هو تلك الدقة التي حسب بها البريطانيون الهجرة اليهودية: 15 ألف مهاجر في العام لمدة خمسة أعوام، بحيث تصبح نسبة السكان اليهود خمسة وثلاثين بالمائة. نقطة آخر السطر. وبذلك سيبقى السكان اليهود في فلسطين بموجب هذه السياسة أقلية مدمجة، عالة إلى الأبد على الحماية البريطانية في محيط معاد لهم.
ولو أن البريطانيين سمحوا للمجتمع اليهودي بأن يتجاوز نسبة الخمسين بالمائة من مجمل السكان لرأينا على وجه التأكيد سعياً قومياً يهودياً لإجلاء البريطانيين عن فلسطين، تماماً كذلك المسعى الذي واجه به السكان العرب الفلسطينيون بريطانيا. أما كأقلية مدمجة، حالهم في ذلك حال المارونيين في لبنان، فإن السكان اليهود في فلسطين سيعملون على تعزيز الوضع الإمبريالي البريطاني في فلسطين ضد مطالب الأغلبية العربية. بمعنى آخر، كان السكان اليهود أغلبية في فلسطين لما ترددوا في النضال من أجل الحصول على الاستقلال.
وذلك بالطبع هو الذي حدث فيما بعد. رفضت القيادة التنفيذية للصهاينة في فلسطين، بزعامة دافيد بن غوريون، الورقة البيضاء لعام 1939، ولكن بسبب نذر الحرب ضد ألمانيا النازية، تعهد بن غوريون، كما هو مشهور عنه، بأن يخوض الحرب ضد النازيين كما لو لم يكن هناك ورقة بيضاء، وأن يقاتل ضد الورقة البيضاء كما لو لم يكن هناك حرب ضد النازيين.
إلا أن العناصر الأكثر تطرفاً داخل السكان اليهود في فلسطين لم يترددوا عن إعلان الحرب على بريطانيا، وأشعلوا شرارة التمرد اليهودي الذي ثبت أنه فتاك للوضع البريطاني في فلسطين. وكما صرح الإرغون في إعلانهم للحرب في يناير (كانون الثاني) من عام 1944: "لم يعد هناك هدنة بين الشعب اليهودي والإدارة البريطانية في أرض إسرائيل. شعبنا يخوض حرباً ضد هذا النظام، وإنها لحرب حتى النهاية."
الإدانة الأخيرة
أثبت التمرد اليهودي ما بين عام 1944 وعام 1947 بأنه مهلك للانتداب البريطاني، وكان من معالمه البارزة عمليات الاغتيال التي استهدفت المسؤولين، والهجمات على البنى التحتية، وتفجير مراكز الشرطة، وتفجير فندق الملك داود. وبينما توافد اللاجئون غير الشرعيين، وكانوا على الأغلب من الناجين من المحرقة، يحطون رحالهم بسواحل فلسطين، وتزايد سريعاً عدد السكان اليهود في فلسطين بحيث أوشكوا على تشكيل كتلة سكانية حرجة تمكنهم من تحقيق تطلعاتهم القومية، بات الموقف البريطاني الذي يحد من الهجرة اليهودية واهياً، ويتعذر الدفاع عنه.
ولكن من وجهة نظري، إن الذي حكم على الموقف البريطاني في فلسطين بالإعدام وأجهز عليه تماماً هو انهيار دعم السكان اليهود في فلسطين للحكم البريطاني فيها. كان البريطانيون يأملون من خلال الشراكة مع أقلية يهودية مدمجة أن يتمكنوا من الاحتفاظ بفلسطين لأنفسهم بالرغم من المعارضة القومية للأغلبية العربية في البلاد. ولكن انتدابهم لم يلبث أن تداعى في مواجهة قوميتين متنافستين وغير متجانستين، ولم يبق من خيار أمام بريطانيا سوى تسليم الانتداب على فلسطين إلى الأمم المتحدة والانسحاب.
في الخلاصة، كانت غاية بريطانيا من فلسطين، وباستمرار، هي الاحتفاظ بالمنطقة كجزء من إمبراطوريتها – تلك الإمبراطورية التي تصورت أنها ستبقى موجودة لأجيال. وكان المجتمع اليهودي في فلسطين شريكاً أساسياً في تأمين فلسطين والاحتفاظ بها، ولكن فقط بوصفه مجتمع أقلية مدمجة. لم يكن يدور بخلد بريطانيا أن تسلم فلسطين يوماً لليهود المقيمين في فلسطين، وكانت سياساتها تقوم على دعم أولئك اليهود فقط ضمن حدود الاستفادة منهم كشركاء في المشروع الإمبريالي.
وكان الخطأ القاتل الذي ارتكبه البريطانيون هو الاعتقاد بأن بإمكانهم أن يتحكموا بقوميتين غير متجانستين بعد أن أطلقوا لهما العنان في فلسطين. وحالما وصل السكان اليهود في فلسطين نقطة الكتلة السكانية الحرجة لم يعد لوجود البريطانيين أهمية في فلسطين.