بإمكان السّلطة الفلسطينية أن تفرز غطاء إعلامياً متكاملاً لمخيّم جنين، لشرعنة العمليّة الأمنيّة فيه، بذريعة إعادة القانون إلى مضماره الصحيح، والقضاء على "مظاهر" التسلح التي تمسّ بسيادة الدولة وأمنها، إلا أنَّ ذلك لن يغيّر حالة التفرّد التي صاغها المخيم في معادلة الصراع مع العدو الصهيوني، ولن يعيد للسلطة ما فقدته تدريجياً من ثقلها الأمني في جنين، وما يُضاف إلى ذلك من حقيقة ارتباط الحملة الحالية بحملة إعلامية موازية، كان "الشاباك" قد شنّها سابقاً، بهدف التسويق لرواية "الإنجازات الاستراتيجية" التي حصدتها وحداته الأمنية والعسكرية الخاصة، عقب الحملة الأخيرة (جزّ العشب) على "خلايا المقاومة" في الضفة، باعتقالها أكثر من 50 "ناشطاً" وعثورها على 4 أحزمة ناسفة وأسلحة، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 23 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
يُساق ذلك كلّه على طاولة الصّراع، ضمن مسار معالجة الخوف المتراكم في الذهنية الإسرائيلية، سواء كانت عمليات مقاومة فردية مرتجلة (كعمليتي القدس الأخيرتين وعملية الطعن في يافا الأسبوع الماضي)، أو تنامي بؤر المقاومة التي تمكّنت من صنع معادلة عصيّة على التدجين (كمخيم جنين). وفي الأخيرة تحديداً، تهديد أمني ببعد عسكريّ قد ينسف رواية الاحتلال حول تلك الحملة "الشجاعة التي نُفِّذت تحت النار أحياناً، وفي ظل المخاطرة بالحياة، لإحباط تنفيذ عمليات قاسية بالتعاون بين الجيش واليمام والشاباك والشرطة، ما أدى إلى أفضل النتائج"، وفق السياق الذي نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" (23 تشرين الثاني/نوفمبر).
وكما جرت العادة في حالات كهذه - أي عند الخشية من التداعيات - تتّخذ "إسرائيل" قراراً يبقى في حكمه غير قطعي إلى حين استحقاق نتائجه. ولعل أقصى ما يخشاه الاحتلال هنا هو تكوين حالة عسكرية عصيّة في جنين.
أما عن القرار، فكان بتنفيذ العملية الأمنيّة بتوقيتها الدقيق هذا بقالب جاهز يُعرف بسياسة "الباب الدوار"، والتي يتم تناقلها بين الاحتلال والسلطة بالرجوع إلى ظروف استنسابيّة. ويقع الدور حالياً على السلطة لتنفيذ عملية أمنيّة، فليس من شأن قوات الاحتلال أن تتصدّى الآن للعملية بصفة رسمية، وهي التي تتجنّب دخول مخيم جنين منذ 4 أشهر، ولا حتى بإحراج السّلطة وإغراقها أكثر في مظهر يزيد من هشاشتها، وهذا تحديداً ما تحاول "تل أبيب" تجنّبه، وتسعى في المقابل إلى انتهاج مسار يقوي السّلطة ومكانتها.
جنين.. مشهديّة متفرّدة
في المشهد الكلّي لما يحدث في مخيم جنين، ثمة عقلية أمنية إسرائيلية استدعت استراتيجية "الاستنزاف حدّ الانكفاء". وفيها، يرى الاحتلال ضرورة عزل الحالة المقاومة في المخيم، وتصنيفها بيئة خارجة عن القانون، ومحاصرة المقاومين ورصدهم في عمليات استدراجيّة خارج المخيم. وفي تبنّي هذا السيناريو ارتداع بينيّ عن الخوض في عملية عسكرية واسعة ضد المخيم، قد تؤدي إلى تصعيد "منفلت" وسيناريو مغاير للحسابات الأولية، أكده أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، زياد النخالة، في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، بقوله إنَّ "الرد جاهز على الاعتداءات بقصف تل أبيب فوراً"، ما يستبطن إذاً أنَّ "إسرائيل" معنية الآن بمنع تمدّد الوعي الجمعي بالنضال، وإيقاف العدوى الجغرافية للفعل المقاوم من التسرّب من جنين إلى أماكن أخرى في الضفة، أو ما قد يتعدى ذلك إلى توحيد الجبهات (الضفة - غزة).
أما المشهد الميداني الأكثر قرباً، فتتعذّر قراءته بمعزل عن ملاحقة الأحداث الميدانيّة المتتابعة ضمن مسار تصاعديّ منذ معركة "سيف القدس"، مع بروز خليّة الشهيد جميل العموري، وتثبيت معادلة الاشتباك المسلّح عند اقتحامات قوات الاحتلال، إلى تنامي بنية المقاومة، بعد عملية "نفق الحرية" في استعادة مشهديات من معركة المخيم 2002: استعراضات عسكرية للفصائل المقاومة في مخيم جنين بأكفان وأحزمة ناسفة وعقد المؤتمرات الصحافية.
لكنَّ المشهد الأبرز كان بظهور ما عُرف بـ"الغرفة المشتركة"، والتي تعهَّدت حينها بتوفير الحماية لأسرى جلبوع، تلاها تصدّر حاجز "جلمة" الإسرائيلي في شمال جنين باسم "الملطشة"، نتيجة الاستهداف اليومي للحاجز الإسرائيلي المذكور برصاص المقاومين، إلا أنَّ الحدث الذي عرّى الوضع الأمني، وألبسته السلطة "قميص عثمان"، كان الظهور المسلّح الحاشد لحركة "حماس" في جنازة القيادي التابع لها، وصفي قبها، في 12 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وهو ما اعتبره أبو مازن تحدّياً واضحاً للسلطة في جنين.
ولم تكن وسائل إعلام الاحتلال بعيدة عن التحريض، بتعمّدها نشر مقاربة تحريضيَّة ربطت مشهد الجنازة في جنين بتوأم لها في غزة، فنقلتها "القناة 12" الإسرائيلية كحدث "أثار غضب إسرائيل ومحمود عباس الذي أقال عدة مديري أجهزة أمنية في المدينة، لفشلهم أمام ألدّ أعداء السّلطة".
وبالفعل، بعد يومين فقط من الجنازة، أعلن المتحدث باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية، طلال دويكات، عن "تنقلات" في صفوف قادة الأجهزة الأمنية في جنين، كإجراء "طبيعيّ" يهدف إلى تعزيز الحالة الأمنية. هذا في الظاهر، لكنه يضمر في خلفيته إجراءً عقابياً، على الرغم من انتماء القادة الأجهزة المقالين إلى العقيدة الأمنية المتمثّلة بالتنسيق الأمني، وذلك للسبب نفسه الذي ذكرته القناة الإسرائيلية، أي فقدان القادة سيطرتهم الأمنيّة على جنين.
هنا، اكتسب المشهد عقب الأحداث الأخيرة سيناريو مخالفاً للاشتباكات المعهودة في المخيم بين المقاومين وأجهزة الأمن. أولاً لخصوصية التوقيت، إذ إنَّ اشتباكات وقعت ليل السبت (20 تشرين الثاني/نوفمبر) بعد يومين فقط من تسلّم قادة الأمن الجدد لمواقعهم في جنين. وثانياً، في عجز جهاز الأمن "المحدّث" عن إنجاز أولى مهامه في المخيم، حين تصدّى الشبان لاقتحام الأجهزة الأمنية، وعودة القوة خائبة بعد فشلها في اعتقال ابن العقيد هشام الرخ، نائب مدير الأمن الوقائي سابقاً (سامي الرّخ)، وقيام المقاومين بإطلاق نيران كثيفة على مقارّ تابعة لها في جنين، رداً على الاقتحام.
صحيح أنَّ من شأن هذه العملية تقوية الهيبة المتهالكة للسلطة بتموضع أمني في المخيم، وترميم مظهر الضعف والارتباك لديها، وقبل ذلك كسب فتات من الرضا الإسرائيلي والدولي، فبحسب يائير فلاي، قائد لواء غولاني الجديد في قوات الاحتلال، إن "الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضعيفة في جنين"، إلّا أن القراءة المعمّقة للواقع تقول إنَّ العملية راكمت فوق السخط الشعبي تراكماً أكبر، ولن تشكّل العمليّة الأمنيّة تلك الحلقة الإنقاذية المنتظرة في المسار المتدهور للسلطة. وفي نظرة أشمل، المخاوف هنا مشتركة عند السلطة التي تبحث عن مكانتها، والاحتلال الذي ينظر إلى العملية كاستحقاق أمنيّ حسّاس.
من هنا، يصبح مفهوماً أن العملية الأمنية أكبر من أن تكون قراراً مرتبطاً بالسلطة وحدها، بل هي مطلب صهيوني واضح، لم تكن السلطة لتتجرأ منفردة على خوضه لولا علمها المسبق بالدعم والمباركة الإسرائيلية. في الحقيقة، يعود قرار العملية الأمنية إلى ما قبل سنة ونصف السنة، كما أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 20 تشرين الثاني/نوفمبر، لكنها تأجلت بفعل قيود كورونا، لتعود ملامح الخطّة، وتطوف على السطح مجدداً، وتأخذ طابعها التنفيذي بعد زيارة رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك"، رونين بار، إلى رام الله، في لقاء أمني بامتياز مع الرئيس عباس في 16 الشهر الجاري، أكدته "القناة 12" بالإشارة إلى أنَّ اللقاء "جاء لتحقيق مطالب عدة تطالب بها إسرائيل".
طبعاً، أهداف الخطة باتت واضحة، وهي تتمثل بتنفيذ اعتقالات بحق المقاومين وجمع السلاح، على أن تستمر الخطّة لحين تحقيق هدفها واستعادة سيطرة السلطة في المخيم، بينما يقود الحملة الآن محافظ جنين، أكرم الرجوب، الذي خرج برواية "إحكام القانون" في المدينة، مصرّحاً أنه "منذ توليه منصبه في المحافظة، لم تطلق رصاصة على المستوطنات، ولم يُصَب جندي برصاصة"، بحسب وصفه، واعتبر أن ما يجري في جنين هو "خروج عن القانون". وخلف الرجوب، ثمة خلية من جهاز الأمن الوقائي، والشرطة العسكرية، وأجهزة المخابرات، والأمن الوطني، في قوّة قد تصل إلى 3 آلاف عنصر.
إلى الآن، ما يوظّف إعلامياً حول بطش الحملة الأمنيّة للسّلطة في جنين، تراه فصائل المقاومة إجراء دورياً متبعاً "لا يعبر عن وجود حملة أمنية أو سلوك أمني جديد"، وتقرأه محفّزاً لترتيب بنيتها التنظيمية، ليبقى سيناريو قطف الإنجازات الأمنية الذي تلوّح به السلطة في جنين معلّقاً وخاضعاً لتجزئة خاصّة مرتبطة حصراً بمفردات جنين، في واقع محاصر بين تصعيد خطوات العملية الأمنية وخوف السلطة من الانجرار إلى مستنقع دماء مع فصائل المقاومة.
المصدر: الميادين