بات واضحًا بأن إجراء الانتخابات الفلسطينية مؤجلًا بقرار فلسطيني، وموافقة إقليمية ودولية. والذريعة التي تبرر فيها القيادة المتنفذة عدم تحديد موعد جديد هي نفسها التي استخدمت لتبرير تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وهي رفض حكومة الاحتلال لإجرائها وفق بروتوكول أوسلو المعيب التي جرت استنادًا إليه في السابق، وهذا يضع الفيتو على إجرائها بيد العدو.
أما السبب الحقيقي وراء تأجيل الانتخابات فهو الخشية من نتائجها، إذ تشير التوقعات والاستطلاعات بعد النهوض الوطني بعد انتفاضة القدس وسيفها، بأن قائمة حركة حماس ستحصل على أعلى النتائج، إذ يشير الاستطلاع الصادر عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في حزيران الماضي، بأن قائمة حركة حماس ستحصل على 36%، وتليها قائمة حركة فتح بنسبة 19%، ومن ثم قائمة الحرية بنسبة 9%، والمستقبل بنسبة 3%، إضافة إلى عبور خمس قوائم أخرى نسبة الحسم، بينما لم تتخط 27 قائمة انتخابية نسبة الحسم، وحصلت مجتمعة على 5%. أما نسبة الـ 20% المتبقية، فحوالي 14% لم يقرر بعد، فيما قال 6% إنه لا يريد أن يصوت لأي من القوائم الـ 36.
وأما فيما يخص الانتخابات الرئاسية وفق هذا الاستطلاع، فسيحصل مروان البرغوثي على نسبة 51% مقابل 42% لإسماعيل هنية، وأما إذا كان المتنافسون ثلاثة، فسيحصل هنية على على 40 % بزيادة نقطة واحدة على مروان، فيما يحصل الرئيس محمود عباس على 15% فقط، في حين تعطي الاستطلاعات منذ سنوات النسبة الأعلى لمروان، سواء كان مع منافس واحد، أو مع عدد من المتنافسين، بمن فيهم هنية وعباس.
حتى الاستطلاعات المهنية لا تعكس الحقيقة والواقع تمامًا، وإنما بشكل نسبي ومؤقت، وهناك نسبة خطأ فالاستطلاع الذي يحدث بعد المواجهة العسكرية دائمًا ترتفع فيه شعبية حركة حماس من 5-9%، فقد ارتفعت بعد معركة سيف القدس بنسبة 9%، ولكن بعد مضي بعض الوقت سرعان ما تعود الأمور إلى طبيعتها السابقة عندما لا يتغير الواقع رغم المقاومة الباسلة.
أما إذا غيرت حماس من إستراتيجيتها بحيث تعتمد إستراتيجية جامعة تؤمن بالشراكة، ولا يعود الاحتفاظ بسيطرتها الانفرادية على قطاع غزة هو الأولوية على أي شيء آخر، فهذا سيفتح باب التغيير على مصراعيه.
يشير تقييم نتائج الاستطلاع المذكور إلى عدم حصول أي قائمة على الأغلبية، وبالتالي عدم قدرتها على تشكيل الحكومة وحدها، ومع ذلك ينثرون في إسرائيل وعدد من العواصم العربية والغربية فزاعة فوز "حماس" في أي انتخابات قادمة.
ولو كانت هذه الفزاعة حقيقة، فهل لا تعقد الانتخابات إذا كانت تشير التوقعات إلى فوز "حماس"؟! إذًا، عن أي انتخابات يتحدثون، وكيف ستكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها ما دام عقدها مرهون بمن يفوز فيها؟
إن الانتخابات يمكن عقدها عند أطراف عدة عندما تكون مضمونة النتائج فقط، لذلك أقلع قطارها عندما اتفق وفدا حركتي فتح وحماس في إسطنبول في أيلول 2020 على تشكيل قائمة مشتركة، بتغطية وطنية، من دون الاتفاق على البرنامج الوطني، ولا على خطة لإنهاء الانقسام، على أن تحصل فتح على 51% من المقاعد، وأن يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا لانتخابات الرئاسة، وعندما فشل هذا الاتفاق لمعارضته من أوساط فتحاوية وحمساوية وغيرها ومن أطراف فلسطينية أخرى، إضافة إلى معارضته لأسباب أخرى من حكومة الاحتلال والإدارة الأميركية وأطراف عربية ودولية، أهمها عدم منح الشرعية لحماس قبل أن توافق على الشروط والإملاءات المعروفة، ولذلك توقف قطار الانتخابات، لأن الانتخابات يراد لها تجديد شرعية السلطة المتآكلة (سلطة الحكم الذاتي)، وليس التعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني بإحداث التغيير القادر على تغيير المسار الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه.
ما العمل إزاء التوافق الفلسطيني الإسرائيلي الإقليمي الدولي على تأجيل الانتخابات؟
هل يتم الاستسلام إلى هذا الأمر، أم يجب معارضته بشدة، والإصرار على إجراء الانتخابات والضغط المتراكم لإجرائها، ولكن ليس وحدها؟ لأن الاتفاق عليها فقط لا يمكن أن يحشد جبهة واسعة، كونها ليست المدخل المناسب لإنهاء الانقسام والتقدم على طريق إنهاء الاحتلال، بل ستكون إذا جرت في ظل الانقسام وتحت الاحتلال نوعًا من إدارة الانقسام واقتسام الحصص.
قد يقول قائل لقد سبق وجرت الانتخابات، وفازت فيها "حماس"، وكلف الرئيس إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة، وينسى أنها تمت قبل الانقسام وتعرضت الحكومة للمقاطعة الدولية، والأهم من الاحتلال، الذي اعتقل عشرات النواب وعدد من الوزراء، وينسى من يقول هذا الكلام أن نتائجها كانت غير متوقعة، ولو كانت متوقعة لما جرت بدليل عدم إجرائها منذ العامين 2005 و2006 وحتى الآن.
علينا أن نعترف بأن الانتخابات ممنوعة حتى إشعار آخر، وإذا سلمنا جدلًا بأنها يمكن أن تجري، فهذا سيحدث بعد تغيير في الخارطة الفلسطينية، أو بعد اتفاق فتحاوي حمساوي بضوء أخضر خارجي، وهذا بات صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا، لأن الاتفاق على إجرائها العام الماضي جاء في ظل التوافق على رفض خطة ترامب نتنياهو، وهذا لم يعد قائمًا بعد سقوطها، إضافة إلى حدوث تباعد فلسطيني غير مسبوق على خلفية العودة إلى الاتفاقات وتأجيل الانتخابات بشكل انفرادي بعيدًا عن الإجماع الفصائلي.
وكذلك في ظل تجدد الأوهام عن إمكانية إحياء ما يسمى "عملية السلام"، ولو من بوابة خطة بناء الثقة التي تهدف إلى بقاء السلطة ومنع انهيارها، وهي لا تملك أي أفق حقيقي لانطلاق عملية سياسية جادة قادرة على التوصل إلى اتفاق سلام، فالهدف الإسرائيلي في ظل سيطرة اليمين هو إدارة الصراع، والمضي قدمًا، وبمعدلات أسرع، في سياسة الضم الزاحف على الأرض والحقوق والمقدسات؛ لاستكمال خلق الواقع الاحتلالي الاستعماري الاستيطاني الذي يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا. وإدارة بايدن ليست بوارد الضغط الجدي على حكومة بينيت، فضلًا عن أن القضية الفلسطينية ليست من أولوياتها.
يدل ما سبق على أن الانتخابات ممنوعة حتى إشعار آخر، إلا إذا جاءت في سياق نتائج تؤبد سلطة الحكم الذاتي.
تأسيسًا على ما سبق، تحولت الانتخابات إلى مسألة نضالية، وحتى تكون نتائجها لصالح الشعب الفلسطيني يجب أن تأتي في سياق مقاومة الاحتلال، أي تسعى لكسر أوسلو وقيوده الغليظة، وترتبط بالمشروع الوطني، وتجري في سياق الكفاح لتحقيقه، وليس بمعزل عنه كما جرى بكل أسف طوال الفترة السابقة في الحوارات والاتفاقيات السابقة منذ وقوع الانقسام وحتى الآن، حيث تم تجنب الاتفاق على البرنامج الوطني وغيره من القضايا المحورية بحجة استحالة الاتفاق، وأن ممثلي الشعب المنتخبين هم الذين يقررون فيها.
السؤال: كيف ستعقد انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، ويتمكن فيها الممثلون المنتخبون من ممارسة حقهم تحت الاحتلال وفي ظل انقسام يرعى سلطتين متنازعتين ستشرف كل واحدة منهما على الانتخابات في منطقتها، وستزورها أو لا تعترف بنتائجها إذا لم تكن مناسبة؟
وفي هذا السياق، هناك دليل على أن "حماس" لم تُمكّن من الحكم ليس بسبب الرفض الإسرائيلي والعربي والدولي فقط، بل أيضًا لعدم تجاوب الوزارات والأجهزة الأمنية والإعلامية مع حكومتها رغم فوزها في الانتخابات السابقة، فكيف ستُمكن من الحكم الآن، والانقسام بات أعمق أفقيًا وعموديًا؟
لو جرت انتخابات تنافسية الآن، ستسعى كل سلطة بكل ما تملكه من إمكانيات لمنع ممثلي السلطة الأخرى من الفوز، واللجوء إلى التزوير أو عدم الاعتراف بالنتائج إذا اقتضى الأمر.
من هنا، من المهم أن تجري الانتخابات بعد التوافق الوطني على المشروع الوطني وعلى توحيد مؤسسات السلطة ومعالجة آثار الانقسام، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا جرت الانتخابات كجزء من رزمة شاملة تتضمن المشروع الوطني، والاتفاق على أسس الشراكة، وعلى تشكيل قيادة انتقالية مؤقتة تقود عملية إعادة بناء منظمة التحرير لتصبح قولًا وفعلًا الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتغيير السلطة لتكون أداة من أدوات المنظمة الموحدة.
حل الرزمة الشاملة صعب، ولكنه يحل المعضلة القائمة، أما إعادة إنتاج الحلول السابقة فقد فشلت في إنجاز الانتخابات والوحدة، وهي تغطي على استمرار تدهور الوضع الفلسطيني.
إن العودة إلى تداول الحلول السابقة، مثل الحديث عن إجراء الانتخابات أولًا من دون إجرائها فعلًا، وتشكيل حكومة أولًا بحيث تشكل وتنهار بسرعة مثلما حصل مع حكومة الوفاق برئاسة رامي الحمد الله، أو البدء بالمنظمة أولًا مثلما حصل بتشكيل لجنة تحضيرية للمجلس الوطني وعقدها اجتماعًا يتيمًا في بيروت، ومن ثم الانقلاب بسرعة على نتائجه وعقد مجلس وطني انفرادي ... لم تحل شيئًا، بل أدت إلى تفاقم المأزق الفلسطيني.
هناك أفكار يتم تداولها عن عقد المجلس المركزي من دون إعادة بناء مؤسسات المنظمة، وتشكيل مجلس وطني جديد، ومجلس تأسيسي للدولة، لتحويل السلطة إلى دولة لا تعدو أن تكون محاولة لشراء مزيد من الوقت، وهي إما لن تطبق وتطرح للإلهاء فقط، لأن طرحها يمكن أن يجد معارضة أميركية إسرائيلية بوصفها إجراءً أحادي الجانب، أو تُطبق من دون أن تغير في الواقع شيئًا، فالمنظمة مجمدة منذ أوسلو ولن يحييها عقد مجلس مركزي انفرادي لملء الشواغر، والسلطة تحت الاحتلال والدولة كذلك تحت الاحتلال، والمطلوب وضع خطة قادرة على إنهاء الاحتلال وليس تسمية السلطة دولة، أي طرح مجرد أفكار تزيد الوضع سوءًا وتعقيدًا .
ينطلق حل الرزمة الشاملة من أن هناك قضايا أساسية عدة مترابطة، لا يمكن تجاهلها، أو تأجيلها، أو الفصل فيما بينها، بل لا بد من الاتفاق عليها ككل أولًا، وتطبيقها بالتدريج، ومن لا يريد ذلك بحجة أن الأمر صعب يحاول إخفاء خشيته من المواجهة مع الاحتلال ومن الوحدة، وما تعنيه إن تحققت من ضمان نوع من المشاركة والابتعاد عن التفرد بالمؤسسات والقرار، وكذلك مطلوب الاتفاق على تطبيقها بشكل متوازٍ ومتزامن، بحيث تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نفس الوقت الذي تجري فيه الانتخابات لاستكمال عضوية المجلس الوطني وانتخابات الاتحادات الشعبية والنقابات وانتخابات الجاليات والمخيمات.
حل الرزمة الشاملة هو الحل المتوازن الوحيد الذي ينطلق من توازن المبادئ والمصالح والقوى، ويتيح المشاركة للجميع ولا يقصي أحدًا، وهو لا يمكن أن يجري بمعزل عن المعركة الأساسية التي يخوضها الشعب الفلسطيني، وهي معركة مقاومة الاحتلال وإنجاز الحرية والعودة والمساواة والاستقلال، وقد يحتاج تطبيق هذا الحل (الرزمة الشاملة) إلى وقت، وإلى اندلاع انتفاضة شعبية عارمة ضد الاحتلال يتم في سياقها تغيير توازن القوى الداخلية، وإنجاز الوحدة في الميدان، تمهيدًا لتحقيقها في النظام السياسي الفلسطيني كله، ولكنها هي الحل المتاح.
ومن أدوات هذا الحل بلورة جبهة وطنية ديمقراطية تشكل تيارًا ثالثًا يكسر حدة الاستقطاب الثنائي، ويحدث التوازن في النظام الفلسطيني كخطوة على طريق تشكيل جبهة وطنية عريضة تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة السياسية.