تشكلت حكومة بينيت لابيد يوم 13/6/2021م، ومنذ اليوم الأول لتسلم مهامها وحتى اليوم لم تتضح وضوحًا حاسمًا خيارات الائتلاف الحاكم في (إسرائيل) تجاه قطاع غزة، لكنه وضع قواعد اشتباك جديدة أهم ملامحها: الرد على البالون الحارق بالقصف الصاروخي، وتغيير آليات إدخال الأموال (المنحة القطرية) إلى قطاع غزة، وتطبيق سياسة التنقيط في إدخال البضائع إلى القطاع.
لكن السؤال الاستراتيجي بالنسبة للائتلاف الحاكم فهو موقع قطاع غزة على أجندة الحكومة، وما الاستراتيجية التي يُجمِع عليها الائتلاف الحاكم للتعاطي مع قطاع غزة؟
ينطلق السؤال الاستراتيجي في مسألة غزة من منطلق سياسة التفرقة والتقسيم الذي نجحت (تل أبيب) في صناعته وتعزيزه، والقائم على تقسيم المناطق الفلسطينية لمربعات خمسة وهي: (القدس– الضفة الغربية– قطاع غزة– فلسطينيو 1948– فلسطينيو المنافي والشتات)، وأشغلت كل مربع بهمومه، وتعاملت مع كل مربع بسياسة مختلفة عن الآخر، هذا كان قائماً منذ زمن وسيستمر في فترة حكم بينيت لابيد.
نعود إلى قطاع غزة الذي يبلغ مساحته 360 كم2، ويسكنه 2 مليون ونيف نسمة، وتكمن أهميته بالنسبة لـ(إسرائيل)، بأنه يطل على ساحل شرق المتوسط، وهو منطقة تعوم على الغاز الطبيعي، و حدوده مع سيناء المصرية ما يقارب 14 كم، في حين حدوده مع دولة الاحتلال 40 كم تقريباً.
هذه المنطقة ذات الكثافة السكانية الكبيرة، وصلت معدلات الفقر فيها إلى أكثر من 53% لعام 2017م حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وهذه النسبة في ارتفاع، لا سيما بعد الإجراءات العقابية التي فرضتها السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، حيث أفادت وزارة التنمية الاجتماعية نهاية 2019م أن نسبة الفقر في قطاع غزة وصلت إلى 75%، ومؤشرات البطالة هي الأعلى لا سيما بين الشباب، وهو ما يترتب عليه حالة من الإحباط تسود بين الأوساط الشبابية.
صانع القرار في (إسرائيل) يراقب حركة النملة في قطاع غزة، في ظل حكم حركة حماس التي بوجود حكمها تطورت البنى العسكرية لفصائل المقاومة، وهو ما يشكل تهديداً كبيراً على (إسرائيل).
وفق ما سبق وغيرها يبقى السؤال: ما خيارات الحكومة الإسرائيلية الجديدة للتعاطي مع قطاع غزة؟
من وجهة نظري أن حكومة بينيت لابيد ستعمل بكل قوة على تحييد قطاع غزة عن مجريات الأحداث المحتملة في الضفة الغربية، أو في الجنوب اللبناني، ولعل التصعيد الذي حصل الجمعة الماضية يؤكد خطورة المشهد وفرص تصاعد وتيرة الأحداث، وعليه سأحصر كل الخيارات المحتملة أمام الحكومة الإسرائيلية الجديدة، والترتيب حسب الوزن الأكثر ترجيحاً.
أولاً: خيار التحكم عن بعد.
أعادت (إسرائيل) انتشارها في قطاع غزة عام 2005م، ولم تنسحب منه كما تدعي، أو كما يحاول أن يصفها البعض، وربما جوهر خطة فك الارتباط التي قام على تنفيذها أرئيل شارون هو التخلص من عبء الكتلة الديموغرافية في قطاع غزة، وتركها تلقى مصيرها، والتحكم عن بعد في مداخل ومخارج قطاع غزة، وهذا السيناريو هو الأقل كلفة بالنسبة لـ(إسرائيل)، وهو ما تعمل عليه الآن: تفتح المعابر متى شاءت وتغلقها متى تشاء، وهذا السلوك ينطبق على كل شيء بما يرسخ معادلة الهدوء مقابل الهدوء، مع استمرار الحصار والانقسام الذي يمس بجوهر الوعي الجمعي ويدفعه نحو الهجرة أو التدجين أو الهزيمة الداخلية عند البعض.
لا أحد يختلف أن الحصار هو الوجه الآخر للحرب، أي الحرب الناعمة غير المكلفة بالنسبة له، ومن وجهة نظري هو أخطر من الحرب المسلحة، لأنه يستهدف كل شيء حي في غزة، ويهتك عضد المناعة لدى المواطن الفلسطيني.
بالمناسبة تطبّق (إسرائيل) هذا التوجه مع الضفة الغربية، وحالة الاحباط لم تعد غزاوية، بل بات الجميع يدرك أن مشروعي المقاومة والتسوية مستهدفان عند (إسرائيل)، لكونهما يمثلان مرتكزات المشروع الوطني الفلسطيني الذي يقوم على العودة والتحرير، ولتحقيقهما نحن بحاجة للتفاوض والمقاومة بكل أشكالها.
في تقديري هذا الخيار تم العمل عليه في زمن حكومة نتنياهو وحكومة بينت لابيد ستستمر بهذا النهج مع تغيير في الشكل بما يحقق بروباجاندا لحكومة بينيت لا سيما مع اقتراب تحدي إقرار الموازنة في الكنيست في نوفمبر القادم، والذي يعمل زعيم المعارضة نتنياهو على إفشال ذلك والذهاب نحو انتخابات جديدة.
ثانياً: خيار الاحتواء والجزرة
هناك أصوات داخل (إسرائيل) تتبنى هذا الخيار، وجوهره رفع كامل للحصار والسماح للغزيين بأن يكون لهم ميناء ومطار وتنمية، وبذلك تصبح المقاومة تمتلك مقدرات تدفعها لعدم الدخول في حرب خشية من المساس فيها.
محاذير هذا الخيار بالنسبة لصانع القرار في (إسرائيل) هو أنه سيعزز لدى الوعي الجمعي الفلسطيني بأن المقاومة انتصرت وأنه بالقوة يمكن تحقيق النتائج، وانعكاس ذلك سلبيا على مستقبل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ودورها الأمني الوظيفي، لكن مع سخونة الأحداث في الشمال، ربما يتعزز هذا الخيار في لحظة ما، ويصبح من الخيارات المرجحة في حال نجح الوسطاء في إبرام صفقة تبادل أسرى.
ثالثاً: خيار الضربات العسكرية.
بالإضافة إلى خيار التحكم عن بعد وخيار الجزرة، ستعمل (إسرائيل) ضمن مبدأ حرب الاستنزاف، وهي تهدف من الجولات القتالية تحقيق ثلاثة أهداف:
• المساس بفصائل المقاومة واستنزافها مالياً وعسكرياً.
• المساس بالحاضنة الشعبية للمقاومة من خلال المساس بالمدنيين في بعض المواجهات العسكرية.
• توحيد المجتمع الإسرائيلي الذي يتوحد على الدم العربي، في ظل التباينات والتناقضات التي تهدد وحدة تركيبته المجتمعية.
رابعاً: خيار إعادة احتلال غزة
بعض أقطاب اليمين يكررون الحديث عن ضرورة احتلال قطاع غزة، وهو ما يرفضه الكثيرون، انطلاقاً من أن هذا الخيار يمكن أن نسميه الخيار الأسود بالنسبة لـ(إسرائيل)، الاحتلال يعني تحمل مسؤولية قطاع غزة، وربما ترى (إسرائيل) نفسها مضطرة للتعاطي مع سيناريو ضم قطاع غزة لـ(إسرائيل)، ويضعف هذا الخيار الإجابة عن التساؤلات التالية:
• هل تحتمل (إسرائيل) فاتورة الخسائر البشرية في الطرفين؟
• من سيحكم قطاع غزة بعد حماس؟
• ماذا بعد احتلال قطاع غزة الذي انسحبت (إسرائيل) منه عام 2005م، وأقر الكنيست قانون القومية الذي يهدف للتخلص من غير اليهود في الداخل الفلسطيني المحتل.
الخلاصة: في ضوء الخيارات السابقة، وغيرها من الخيارات بات من الضروري البحث في التعاطي مع الخيارات السابقة على النحو التالي:
1. وحدة الموقف الفلسطيني في هذا التوقيت بالذات ضرورة تقتضيها المصلحة الوطنية العليا، بعيداً عن كل التحديات التي تعترض تحقيقها.
2. توحيد جهود الشعب الفلسطيني وعدم السماح لـ(إسرائيل) بالتعاطي مع غزة والضفة والقدس وفلسطينيي 1948 م والشتات على أنها ملفات منفصلة ومستقلة، ينبغي أن تتوحد الجبهات والأدوات في كل أماكن الوجود الفلسطيني ومن يناصر العدالة الدولية، وما حصل في معركة سيف القدس يؤكد ذلك.
3. زيادة فاتورة الاحتلال عبر تكثيف المقاومة الشعبية في مناطق التماس مع الاحتلال، مع ضرورة استثمار التفاهمات أمام العالم لتأكيد أن (إسرائيل) هي من تدفع المنطقة نحو الانفجار.
4. ضرورة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية مع الدعوة لعقد الإطار القيادي المؤقت بما يعزز من صدارة جهة واحدة تمثل الكل الوطني في مواجهة التحديات.
5. التفكير الجاد في دراسة خيار الدولة الواحدة الديمقراطية بعد تآكل حل الدولتين.
6. عين (إسرائيل) على سواحل شرق المتوسط حيث الغاز، وعليه ينبغي أن تكون عين المقاومة والقيادة الفلسطينية في الدفاع عن موارد الشعب الفلسطيني بكل الوسائل والسبل.
7. يجب ألّا نبحث عن خيار المواجهة العسكرية، ولكن في الوقت نفسه لا نخشاها، وعليه لا بد من تدمير نظرية الهدوء مقابل الهدوء.
8. التقاضي الدولي مسألة بالغة الأهمية ينبغي دراستها لمواجهة الحصار والجرائم الصهيونية ضد شعبنا الفلسطيني.
9. لا بد من استثمار الدور الصيني الجديد بعد مبادرة الحزام والطريق وتوجهات الصين الجديدة في المنطقة، وكذلك الدور الروسي وغيره من الدول الصديقة للشعب الفلسطيني.
10. تستطيع وحدات التفكير دراسة كل الخيارات الإسرائيلية في التعاطي مع القضية الفلسطينية عموماً وغزة على وجه الخصوص، ووضع الرؤى في كيفية تمرير وتعزيز الخيار الذي يخدم المصالح الوطنية العليا، وهو يستوجب صياغة استراتيجية وطنية تنسجم وطبيعة المتغيرات والتحديات.