معضلة الاحتلال في بلادنا شأن كل الاستعماريين عبر التاريخ، انه لا يفقه او يعي فلسفة التاريخ، التي تنظم كأطار عام علاقة المحتل بالشعوب المقهورة، ويصر على لي عنق الحياة ليكيفها مع تخيلاته التي بنيت في جزء كبير منه على موروث دوني ليس لابناء شعبنا فقط بل لكل سائر البشر والمخلوقات.
المتتبع للأحداث الأخيرة وما ينتج عنها للحظة من سياسة بطش وتنكيل بابناء شعبنا واعتقال الالاف منهم، ومداهمة منازلهم في كل الساعات والفجر منها تحديداً وعلى امتداد البلاد جميعها وما يرافق ذلك من ضرب وإسالة دماء وتخريب وعبث بالمنازل فحتى نهاية ايار تجاوز عدد المعتقلين من ابناء الداخل المحتل والقدس 1983 معتقلاً، وفي الضفة المحتلة لم تتوقف حملات الاعتقال بل زادت وتيرتها.
هذه الاعتقالات المصحوبة بالعنف الغير مبرر لا يمكن رؤيتها كضرورة امنية لحظية مجردة، بل هي تعبير عن جوهر سياسة الاحتلال ومنهج تفكيره نحو ابناء شعبنا، هذه السياسة المنهجية التي لها العديد من الصور والتجليات الناعم منها والعنيف ولكنها تبقى في المجمل محكومة للهدف المبني على اعتقاد راسخ لدى مؤسسات دولة الاحتلال مفاده ان القمع كفيل بترويض واخضاع الشعب المحتل لرغبة وتصورات دولة الاحتلال.
ان ممارسات الاحتلال على مدار 7 عقود بنيت ليس فقط على طمس الهوية الوطنية لابناء شعبنا بل والسعي الحثيث والاعتقاد اليقيني انهم حولوا الشعب الى مجرد مجموعة من السكان الراغبين فقط بالبحث عن لقمة العيش والتعايش مع املاءات السيد الحاكم.
الهبة الشعبية الاخيرة وما رافقها من تفاصيل كانت مفصل مهم ونوعي من شأنه ان يؤشر الى المرحلة القادمة بكل ما فيها من تحولات سياسية على الصعيد الفلسطيني وما سيرافق ذلك من تحولات على صعيد المنطقة.
في هذا السياق وارتباطا بعنوان المقالة سنحاول ان نكثف الصورة حول مشهد التغيير الفلسطيني في المناطق المحتلة من العام 48، فهذا الجزء من ابناء شعبنا بقي وفياً لانتماءه وارضه برغم كل المحاولات المحمومة من دولة الاحتلال لتبديد هويته، وكان قادراً على التعبير عن ذلك في الكثير من المحطات ليس اولها يوم الارض ولا اخرها هبة اوكتوبر، بل على مدار 7 عقود كان العقبة المزعجة لكل ساسة الاحتلال ومؤسساته، ولم يدخروا جهداً في سبيل تدميره بدءً من تغذية العصابات المحلية والتي باتت في الاشهر الاخيرة تحصد العشرات من ارواح ابناء شعبنا واغراق المجتمع بكل انواع الاسلحة لتسهيل وتسريع عمليات العنف ، مروراً بترويج المخدرات الى حرمانهم من السكن والبناء ومحاصرتهم في الوظائف والتمييز في القوانين، انها السلسلة الطويلة في المحاولات المستميته لتفتيت المجتمع وتهتيك بنيته لتسهيل تذويبه وتحويله الى مجرد ارقام خادمة في دولة الاحتلال.
المتتبع للاحداث الاخيرة وتفاعل ابناء شعبنا معها في الداخل المحتل سيجد انها تميزت بميزتين لم تكن حاضرة بذات المستوى على مدار العقود السابقة، اولها الاتساع الجغرافي، فالمظاهرات لم تكن محصورة في بقعة محددة بل شملت كل الاراضي المحتلة في العام 48 من حيفا وعكا شمالاً الى جنوب النقب، والثانية نوعية المواجهة التي لم تقتصر كما المرات السابقة على المظاهرات والقاء الحجارة بل تعدتها الى استخدام السلاح والنزول الى الشارع والسيطرة على مراكز المدن وبعض الاحياء مما استدعى دولة الاحتلال الى التفكير او إعلان حالة الطوارئ وادخال الجيش بالاضافة للشرطة والقوات الخاصة الى الاحياء العربية .
هذه المشهدية التي استمرت على مدار ايام العدوان على قطاع غزة ليس عابرة، بل هي تحول نوعي في طبيعة العلاقة مع دولة الاحتلال ومؤسساته وسيكون لها انعكاساتها على مدار السنوات القادمة، وهذا ما دفع الكثير من المحللين والعسكريين في دولة الاحتلال للاعلان على ان الخطر الاستراتيجي الحاصل عن هذه المواجهة يكمن في الوجود الفلسطيني في المناطق المحتلة من العام 1948.
في اطار العلاقة المشتبكة مع الاحتلال من المهم ان نكون على دراية بكيفية تفكيرهم ضمن فلسفة اعرف عدوك وبرغم تلك الاهمية إلا ان ما يعنينا هنا هو ذلك التحول الذي حدث لدى ابناء شعبنا. فهذه المواجهة لا يمكن تناولها فقط من زاوية التضامن مع ما حدث في غزة من قتل وتدمير، ومن وحشية غير مبررة لقوة عسكرية مفرطة مع مناطق محاصرة من 15 عاماً. بل هو تعبير عن تطور نوعي في طبيعة المواجهة مع الاحتلال حول عنوان الهوية الوطنية، ففي هذه الايام المحدودة والدموية حسم اي تشكيك في هوية من ثبتوا في الارض على مدار عقود وحسم ايضاً وبشكل قاطع كل رهان من مؤسسات الدولة المحتلة على قدرتها في تذويبهم واخضاعهم وتحويلهم الى مجرد اعداد من السكان وبات واضحاً ان كل ما بذل على مدار 7 عقود من جهد في التبديد وطمس الهوية بات غبار اخذته الريح بعيداً مما يحتم على مؤسسة الاحتلال ان تقف امام سؤال ما العمل ؟؟.
ولأن الاحتلال لا يمكن الا ان يفكر ضمن عقله ولا يستطيع ان يهضم فلسفة التاريخ أمعن وما زال في الاعتماد على منطق القوة والترهيب لاحتواء هذا التحول، وتمادى كثيراً في حملة الاعتقالات والاستدعاءات ورسائل التحذير والفصل من الوظائف والابعاد والحبس المنزلي وكل اجراءات التضييق التي بات يمارسها وبلا وجل على كل ابناء شعبنا، إن هذه الاجراءات لن تحقق ما يبتغون بل هي كما الزيت على النار التي ستؤجج السؤال المركزي من نحنُ لكل المترددين من ابناء شعبنا في المناطق المحتلة من العام 48 وكل الاجيال الصاعدة، التي بات واضحاً ان سطوة العنف لا ترهبها وان شعورها بانها جزءاً من شعب اوسع يتعرض للظلم والعدوان والتشتيت بات سيد الموقف.
عندما يسقط حاجز الخوف، وتتضح الرؤية، وتحسم الخيارات، ويستعيد الشعب ثقته بنفسه، ويتوحد دفاعاً عن وجوده حينها لن يُكسر وسيكون النصر أقرب مما يعتقد الكثيرين، وأمامه ستصبح القنبلة النووية والمفاعلات المغروسة في صحراء بلاده مجرد العاب يلهو بها الحالمين بسطوة القوة ونقاء العرق، وسيوضع الاحتلال بكل ادواته في متحف التاريخ ليكون درساً خلاصته أن العنف لن يكسر إرادة ولا يبدد الهويات بل على العكس من ذلك هو من يمنح الهويات روحها لتشع املاً وبصيص حياة على امتداد الارض ليعود المهجرين إلى بيوتهم ويتحدوا مع أحلامهم ، إنها بداية النصر.