يحيي الفلسطينيون اليوم الذكرى الـ73 للنكبة التي صنعتها العصابات الصهيونية بدعم من قوى الاستعمار وقتلت فيها أهل الأرض وهجّرتهم من قراهم ومنازلهم واغتصبت حقّهم، لترتكب على مدى السنوات التي تلت المزيد من جرائم القتل والتهجير على مرأى من العالم الذي انقسم بين منحازٍ لدولة الاحتلال ومشارك في جرائمها، وبين داعم لفلسطين وأهلها، وبينهما مروحة من المواقف المستنكرة والشاجبة وتلك التي تساوي الضحيّة بالجلاد.
على مدى السنوات القليلة الماضية، ازداد المشهد قتامة مع الدعم المطلق من إدارة ترامب لدولة الاحتلال وتطلّعاتها في فلسطين التاريخية، وزاد من قتامته دخول عدد من الأنظمة العربية فيه، لا كحلفاء، بل كأدوات لتنفيذ مخططات قوى الاستعمار والاستكبار، ولتكون مواقفهم مظلّة عربية لجرائم "إسرائيل"، ما كان منها وما سيكون. ففي عام 2018، وبالتزامن مع الذكرى الـ70 للنكبة، نقل ترامب السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة، ضمن مسار بدأه منذ بداية ولايته لتصفية القضية الفلسطينية عبر قرارات كان من بينها اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال في كانون الأول/ديسمبر 2017، وسلسلة من القرارات التي استهدفت الأونروا تمهيدًا لتصفية حقّ اللاجئين بالعودة إلى فلسطين.
وفي كانون الثاني/يناير 2020، أعلن ترامب رسميًا عن خطته للسلام المعروفة بصفقة القرن، ومع اقتراب العام من نهايته أعلن عن "اتفاقات أبراهام" التي دشنت موجة جديدة من التطبيع الرسمي بين عدد من الدول العربية ودولة الاحتلال، وكان من أبرز علامات تمهيدها لإنهاء القضية الفلسطينية تبنّي زيارة العرب والمسلمين للقدس والمسجد الأقصى تحت الاحتلال، بما يشكّل اعترافًا بمضمون صفقة ترامب التي تسلّم القدس ومقدّساتها للسيادة الإسرائيلية.
لم يكن تراجع الموقف العربي الرسمي، أو سقوطه، مفاجئا إذ إنّه توّج أعوامًا من العلاقات التي أدارتها الأنظمة العربية في الخفاء مع دولة الاحتلال، وسنوات عجاف من المواقف الهزيلة أنتجتها قممٌ عادية وطارئة سقف موقفها الإدانة والرفض وتعهدات شكليّة بمتابعة الاعتداءات على القدس ووضع آليات لمواجهتها، وتبنّي المطالبة بـ "القدس الشرقية" عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، حتى أنّ القدس بشطريها وأرض فلسطين التاريخية لم تعد حاضرة إلا في أدبيّات بعض الأحزاب والقوى، وفي الذاكرة الشعبيّة التي لم تندرس بمرور التّاريخ ولم يلوّثها التّطبيع، وقلّة قليلة من الحكومات، اتّساقًا مع عقيدة تتمسّك بكلّ فلسطين التاريخية أرضًا عربية إسلامية.
وكان القبول العربي الرسمي بـ "القدس الشرقية"، واعتراف منظمة التحرير الفلسطينيّة بـ "دولة إسرائيل" على الأراضي المحتلة عام 1948، أحد الأسباب التي فتحت الباب أمام اقتراحات من هنا وهناك تدعو إلى إعادة تعريف القدس عاصمة الدّولة الفلسطينية بحيّ من أحيائها قد تقبل دولة الاحتلال بالتّنازل عنه لأنّه لا يناسبها في حسابات الميزان الديمغرافي.
وعلى مدى هذه الأعوام منذ النكبة إلى النكسة وما بعدها، عرفت فلسطين هبّات وانتفاضات، كانت القدس والمسجد الأقصى في مقدّمة عوامل تفجيرها، وقدّمت غزة نموذجًا لقدرة المقاومة على طرد الاحتلال وإجباره على الانسحاب وسحب مستوطنيه، وكذلك الضفة التي آلمت العدو؛ لكنّ الموقف الرسمي كان يصالح على الدّم، بعد أن يشارك في سفكه، ويتخلّف عن دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، بل ويقف ضدّها، ويقدّم للعدوّ يد المصافحة والمصالحة ليبيّض جرائمه ويمدّ له يدًا تعينه على جولة جديدة من الجرائم يرتكبها بحقّ الفلسطينيين.
هذا المشهد الذي كاد يتحوّل إلى واقع لا فكاك منه يبدو سرابًا في الذكرى 73 للنكبة، إذ يعيد الفلسطينيون صناعته ورسمه، وفلسطين كلّها تخرج وتنتفض في وجه الاحتلال: في القدس هبّة وانتصارات فارقة تجبر العدو على التراجع في باب العامود والمسجد الأقصى، والتأجيل في حي الشيخ جرّاح، وفي غزة مقاومة كسرت محاولات الاحتلال عزلها وإلهاءها بحصارها، وفي الضفة اشتباك مع الاحتلال في نقاط التماس، والداخل المحتل عام 1948 يشتعل غضبًا فلسطينيًا ورعبًا إسرائيليًا فيما صورايخ المقاومة تصل شارع هــرتـزل، مؤسسة الصهيونية، وسط "تل أبيب"!
وفوق ذلك، تبدو ورقة التطبيع خاسرة حين عرّت من تلحّفوا بها، ولم تحمِ دولة الاحتلال، وأهمّ من ذلك لم تصادر الوعي الشعبي الذي تجسّده التظاهرات التي تخرج نصرة لفلسطين والقدس وغزة، وفي الزحف الشعبي إلى الحدود بين الأردن ولبنان من جهة وفلسطين المحتلّة من جهة أخرى.
على مدى عقود من الاستعمار والاستكبار والاحتلال، كان الهدف إقناعنا أنّ النكبة ثوبنا الأبدي وأنّ فلسطين لن تعود إلينا ولن نعود إليها.. اليوم نشهد مرحلة جديدة عنوانها بداية نكبة "إسرائيل" ونهاية نكبتنا!