حقّق المقدسيون انتصاراً جديداً، بإجبارهم الاحتلال على تفكيك حواجزه الحديدية في ساحة باب العمود. يضاف هذا الانتصار إلى ما حققوه في السنوات الأخيرة، منذ هبّة باب الأسباط بإجبارهم الاحتلال على إزالة بواباته الإلكترونية من على بعض المداخل الخارجية للمسجد، ثم هبّة باب الرحمة التي تمكّن فيها المقدسيون من إعادة افتتاح مصلى باب الرحمة الذي أغلقه الاحتلال منذ العام 2003.
سبقت ذلك هبّات أخرى، مثل هبّة الطفل محمد أبو خضير في العام 2014، وهبّة القدس في العام 2015. عموم الحركة الاحتجاجية في المدينة المقدسة تتمركز حول المسجد الأقصى، ثمّ تواجه السياسات الاستعمارية الصهيونية، التي تهدف إلى خنق المقدسيين في المجال العام، بمعنى أن المواجهة هي على الحيّز، حيّز الفعل الإنساني والوجود والحياة. وفي السياق نفسه تأتي السياسات الاستعمارية للاحتلال بهدم البيوت، والتهجير، وتصعيب استصدار تراخيص البناء، وتسريب العقارات، والدفع بتشكيلات منظمة من المستوطنين، لإزاحة المقدسيين عن حيزهم التاريخي والأصيل.
قبل الهبّة الأخيرة، ولإحكام هيمنته على المدينة المقدسة، وظّف الاحتلال جائحة كورونا، التي ألقت بظلال ثقيلة على النشاط الاقتصادي للمدينة، وفي حين يُشكّل الموسم الرمضاني فرصة لإنعاش هذا النشاط، فإنّ الاحتلال اعتقد بأنّ التأثيرات التي قد يراها المقدسيون سلبية على نشاطهم الاقتصادي لأيّ حراك احتجاجيّ ستعزل الحركة الاحتجاجية، إلا أنّ الحركة الاحتجاجية تصاعدت، وصولاً إلى إجبار الاحتلال على تفكيك إجراءاته، وكسر شوكة المستوطنين الذين تستند إليهم شرطة الاحتلال في تنفيذ المهمات القذرة، في إطار سياسة مخادعة، تسعى فيها إلى تصوير نفسها عنصراً محايداً بين المقدسيين وبين المستوطنين.
في الأثناء كذلك، أي أثناء الجائحة، وبعد الهبّات السابقة، ظلّ الاحتلال يشتغل بدوره على تفكيك الحركة الاحتجاجية، بسياساته الأمنية المتعددة، ويعمل على عزلها عن المجتمع المقدسي. هذه المعطيات كلّها جعلت من هذا الإنجاز مهمّاً للغاية.
يبدو الإنجاز بقدر ما كان جزئيّاً، إذ هو على حيّز مكاني صغير، وإن كان يمثّل مساحة للنشاط الحيوي للمقدسيين، فإنّ له بعداً استراتيجيّاً مهمّاً، بتوسيع رؤية حماية المسجد الأقصى في حدود البلدة القديمة كلّها. وهنا يجب استحضار ما فعله الاحتلال في مدينة الخليل، بفرض سياساته الاستعمارية على البلدة القديمة، ولا سيما شارع الشهداء فيها، وعلى المسجد الإبراهيمي، وعلى النحو الذي قتل النشاط الحيوي لأهل المدينة، لا على المستوى الاقتصادي فحسب، بل في مستويات الوجود والفاعلية عموماً. فتوسيع أحياز المواجهة، من جهة يضمن مستويات متعددة في الدفاع عن المسجد، ومن جهة أخرى يضع في أهدافه ألا تتحوّل البلدة القديمة إلى ما آلت إليه شقيقتها في الخليل، الأمر الذي سيجهز حينئذ على الوجود المقدسي ونشاطه الحيوي والاقتصادي فيها.
تضاف إلى هذا البعد الاستراتيجي؛ الأبعادُ المعنوية والتعبوية، بالرغم من استفراد الاحتلال بالمدينة، وسياساته الاستعمارية في التهجير الممنهج، والأمنية في عزل الحركة الاحتجاجية وتفكيكها، والاجتماعية في الأسرلة في الحقول الثقافية والاقتصادية والتعليمية، فإنّ الحركة الاحتجاجية بزغت من جديد بقوّة مفاجئة، فرضت على الاحتلال التراجع مجدّداً عن سياساته الأمنية، ذات المغازي الاستعمارية الاستراتيجية، في ساحة باب العمود.
ما يمكن قوله هنا، أولاً على المستوى الذاتي، أن إمكان الفعل موجود، وعلى مستوى الاحتلال أنه يخشى من توسع المواجهة في القدس نفسها، بما يأتي بالإبطال على سياساته الأمنية والاجتماعية التي ينتهجها، وفي عموم الضفة، وفلسطين، بما يأتي بالإبطال على الشلل المقابل الذي أتاح له الاسترسال في إنفاذ سياساته الاستعمارية في الضفّة، لا سيما وأنّ نقاط الإشعال متوفّرة لمن أراد أن يستثمرها، وهذه واحدة من المؤشرات المهمّة التي تضيء بها هذه الهبّة، ثم يخشى من استعادة القضية الفلسطينية موقعها في الصدارة، بما يضرب في عمليات التطبيع الجارية، وكشف ظهور الفلسطينيين.
الهبّات المتتالية في القدس تؤكد أن الجماهير قادرة على الفعل، ويمكن بها كسر سياسات التدجين، والإغراق الاستهلاكي، والتحييد عن الاهتمام بالقضايا العامّة. ويمكن للتأكيد على ذلك، التذكير بالمئات من شباب وفتيات الضفّة الغربية، الذين التحقوا بهبّة القدس عام 2015، وظلّوا يسيرون بها بأنماط متجددة من الكفاح لسنوات إلى الأمام. هذه إجابة كبيرة لمن يسأل عن بديل استمرار الاختناق في نفق السلطة العدمي، فالأصيل موجود، وإمكان استئنافه قائم، لكنّ العقبة في الإرادة الرسمية التي تصرّ على ديمومة ذلك الاختناق.
في مقابل هذه الإنجازات المقدسية، والتي يمكن أن نضيف إليها تعزيز حماية المسجد الأقصى، برفع مؤشرات الخطر لدى الاحتلال في حال عمل على الاقتراب من المسّ به أكثر، فإنّ ثمة معارك جوهرية مع الاحتلال ينبغي أن تخاض في مواجهة سياسات التدجين والإلحاق والأسرلة. وبالنسبة لبقية الفلسطينيين، فإنّ تعزيز صمود المقدسيين ينبغي أن يكون في أولوية جهات العمل المنظم.