القدس المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: منذ بداية شهر رمضان المبارك، تعيش مدينة القدس المحتلة مواجهة مفتوحة مع قوات الاحتلال، بدأت من رفض الشبان المقدسيين لمحاولة الاحتلال سلبهم باب العامود، وامتدت بعد أيام لتشمل أحياء مختلفة في المدينة، وصولاً إلى دخول مناطق مختلفة من الضفة المحتلة على خط المواجهة، والقصف الذي نفذته فصائل المقاومة الفلسطينية لمستوطنات "غلاف غزة"، دعماً للهبة، وسط مخاوف لدى المستويات الأمنية في دولة الاحتلال من اندلاع التصعيد على جبهات أخرى.
أثار الحراك الحالي في القدس أسئلة حول أهدافه التي يريد أن يصل لها، والسيناريوهات المتوقعة في المرحلة المقبلة، والمطلوب من باقي الفلسطينيين لدعم الهبة والاستفادة منها.
"شبكة قدس" حاورت أستاذ العلوم الاجتماعية والباحث المقدسي، خالد عودة الله، حول مختلف القضايا المتعلقة بالهبة:
ما هي الأسباب التي فجرت الهبة الشعبية الحالية في مدينة القدس المحتلة؟ هل كان منع التجمع في ساحة باب العامود السبب الرئيسي للأحداث؟
أعتقد أن السبب المباشر هو منع التجمع في ساحة باب العامود، ولدينا عدة تراكمات في الشارع المقدسي خلال الفترة الماضية. الاحتلال كان يعتقد أن بإمكانه استغلال الانهاك الاقتصادي والشلل الاجتماعي الذي مرت به البلدة القديمة، خلال فترة جائحة كورونا، للسيطرة على باب العامود وفرض أمر واقع يحوله إلى حالة دائمة.
الشباب المقدسي لديه علاقة حميمية بالمكان، وليست علاقة موسمية وخاصة لأهالي البلدة القديمة، وأي عبث به هو مساس بالحياة اليومية ونظام الحياة، ومن جانب آخر إذا سمحنا للاحتلال أن يحدد لنا أين نجلس وما هو المكان الممنوع والمسموح، فهو تخطي لكل الخطوط الحمراء، ومن هنا أتى العنفوان الذي رأيناه في المواجهات.
بناءً على معايشتكم للحراك الشعبي في القدس، ما هي الأهداف المرحلية لهذه الهبة؟
الهبة تواجه محاولة الاحتلال فرض أمر واقع في منطقة باب العامود، ولا يمكن فصل هذه القضية عن اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، واستقدام ميلشيات المستوطنين للتخريب والقمع والترهيب.
الهدف المباشر هو مواجهة ما يريده الاحتلال في باب العامود، وأسباب أخرى تتعلق بإرادة الناس الإعلان للاحتلال أننا قادرون على المقاومة، والمجتمع المقدسي وما حوله لن يسمح للاحتلال أن يكون هو اللاعب الوحيد في الميدان.
منذ سنوات يعمل الاحتلال على منع الفلسطينيين من التجمع في باب العامود وتجري مواجهات في كل شهر رمضان تقريباً، ما هي أسباب استهداف الاحتلال للمنطقة؟
باب العامود بؤرة الحياة والنضالية والسياسية في القدس، تاريخياً وواقعياً، باب العامود له خصوصية عدا عن أنه الباب الرئيسي، فهو نابض بالحياة حتى ساعات متأخرة من الليل، البلدة القديمة نتيجة الحصار الذي تعرضت له والتدمير لاقتصادها فإن الحياة تضعف فيها مع ساعات المساء، بينما حافظ باب العامود ومنطقة المصرارة على تواجد نشط وحيوي للناس.
الاستهداف لهذه الحياة وبالنسبة للاحتلال أي مكان حي فهو مصدر للخطر، كما أنه يخطط لإزالة أية عوائق في وجه تسهيل اقتحامات المستوطنين، من خلال تفكيك كل الأماكن التي يشكل وجود الناس فيها بؤرة اشتباك.
وصلت الأمور بأن بعض المستوطنين يحضرون إلى البلدة القديمة لممارسة الركض، وهذا ليس حدثاً عادياً أو عابراً، بل نوع من فرض حضور استيطاني صهيوني على المكان، وبالتالي أية بؤرة لتجمع الفلسطينيين تشكل حاجزاً أمام السريان السلس لاقتحامات المستوطنين، التي أصبحت على مدار الساعة.
كيف يعمل الفلسطينيون بوسائل يومية وحياتية على الرباط في المنطقة والحفاظ على وجود عربي فلسطيني فيها؟
وجود الفلسطينيين في هذا الحيز يشكل عائق أمام الفعل الاستعماري، سواء بشكله الشرطي الأمني أو من جانب ميلشيات المستوطنين، وحفاظنا على باب العامود ليش حفاظاً على مكان وهوية وتاريخ وأحد مكونات المشهد الحضاري، بل حفاظ على وجودنا.
المواجهات امتدت إلى أحياء مختلفة من القدس المحتلة، خلال اليومين الماضيين، هل سنشهد هبة تمتد لأسابيع كما حصل بعد انتفاضة القدس في 2015 وهبة محمد أبو خضير في رمضان 2014؟
في البداية بحب أشير إلى نقطة مهمة، أريد أشيد بصمود فئة قليلة من الشباب المقدسيين الذين أصروا على خوض هذه المعركة، بينما كان يتم التحريض عليهم ومحاصرتهم، ولكنهم صبروا وصمدوا وتفوقوا بوعيهم على كثيرين من "المرجعيات"، الذين غابوا عن هذه الهبة وعادوا لحجمهم الطبيعي بعد أن تسلقوا على أكتاف الجماهير.
لولا هذه الفئة الصغيرة التي صمدت وتحملت "الكيد" الداخلي والقمع الصهيوني، لما كنا وصلنا في اليوم العاشر لهذا الشكل من التوسع في المواجهات، ومن المهم أن تتكاتف الجهود لتحقيق الهدف المباشر وهو تحرير باب العامود وإعادته للسيادة الشعبية.
ليست مهمة الإنسان المنخرط في العمل أن يتوقع ما سيجري، بل أن يساهم في تمتين ورفد هذه الحركة الشعبية والقتال في صفوفها.
هناك تشابه بين ما يحدث اليوم وما جرى في هبة الأسباط، أو هبة محمد أبو خضير، وهنا أريد التحذير من غدر من ميلشيات المستوطنين، لأن من يطلع على تنظيمهم الداخلي يعتقد أن هناك مخطط خطير يعملوا عليه، لذلك يجب تشكيل لجان حماية في الأحياء، لحماية الناس من الأفعال الجبانة التي قد تقدم عليها ميلشيات المستوطنين.
برأيكم، ما هي النجاحات التي حققتها الهبة في مدينة القدس حتى اللحظة؟ وما المطلوب من الفلسطينيين في بقية الأرض المحتلة لدعم هذه التجربة والاستفادة منها؟
النجاحات الأولية أنها حققت إعادة الحياة السياسية النشطة للمجتمع المقدسي، بعد سنتين من "الموات السياسي"، الذي له عدة أسباب بينها حالة الطوارئ والعجز الفصائلي والاختراق الصهيوني.
هبة باب العامود أعلنت أن الفلسطينيين عادوا فاعلين سياسيين وقادرين على عرقلة المخطط الاحتلالي في باب العامود، وهنا نؤكد على أن أي تغيير في باب العامود يعني تغييراً على واقع القدس، وجزء من محدودية الالتفاف على هبة العامود مقارنة بهبة باب الأسباط في 2017، أن القضية حينها كانت أكثر التصاقاً بالمسجد الأقصى وباب العامود أبعد، وهذه الفكرة نجح الاحتلال في زرعها، لكن الحقيقة أن الآثار التي يخلقها الحاجز هي نفسها حين تضعه على باب العامود أو باب حطة أو باب الأسباط.
الانجاز الآخر للهبة، يمكننا القول أن الفلسطينيين استعادوا دور القدس الريادي، حيث كانت عبر التاريخ معقل الحركة الوطنية الفلسطينية وتم محاصرة هذا الدور، وشكلت المدينة المفجر للانتفاضات الفلسطينية عبر التاريخ.
المهم الآن: ماذا بعد؟ وما العمل؟ اعتقد أنه يجب مساندة الهبة والابتعاد عن استغلالها لأجندات سياسية أو للانتخابات، لأن هذا السلوك يقتل روحها، لأنها انطلقت للدفاع عن الأرض، وطالما حافظنا على الوضوح سيكون لها مستقبل في إعادة الحياة للشارع الفلسطيني بعد أن سلبت منه الروح طوال السنوات الماضية.
منذ بداية العام تصدر الحراك الفحماوي ضد جرائم القتل وشرطة الاحتلال المشهد النضالي الفلسطيني، ما هي نقاط الالتقاء بين الحراك الفحماوي والهبة الحالية في القدس المحتلة؟
الحراكان انطلقا خارج أطر الفصائل في البداية، وكلاهما اجترحا طريقاَ ذاتياً صعباً خارج التفكير السياسي، وامتلكا وعياً حاداً تجاه كيف يعمل الاستعمار وما يريده بعيداً عن التحليلات والتنظيرات الكبيرة، وتم توجيه كل مسببات حالة الجريمة المنظمة تجاه الاستعمار نفسه وشرطة الاحتلال.
في القدس جرى قراءة ما يريده الاحتلال بدقة من باب العامود، شاهدنا مقطعاً مصوراً لأحد عناصر شرطة الاحتلال يحاول التفاوض مع الشبان، وهذا يعكس أن القضية دقيقة جداً، لكن وعي الناس وعلاقتها بالمكان تعرف ما هي أبعادها الحقيقية.
الروح الشبابية الواعية تجمع ما بين الحراك الفحماوي وهبة باب العامود.
هناك من يرى أن المجتمع الفلسطيني يعيش مرحلة سيئة للغاية في تاريخه، هل تتفق مع هذا الرأي؟ وهل ترى أن الجيل الجديد الذي يخوض المواجهة في القدس يتجه نحو التحرر من الأزمة الفلسطينية؟
في كل مرحلة يعيش المجتمع إشكاليات وأزمات، وهذه دائماً موجودة، إذا عدنا لسير الفلسطينيين وأمثالهم وغيرها، نجد من يلعن الزمن ويصفه بالسوء، لكن لا اعتقد أن ما نعيشه اليوم أسوأ من المراحل السابقة.
الوضع الذي نعيشه لا يعني انعدام وجود "فسحة" للمقاومة، وهي في كل المراحل كانت موجودة، وهناك من يستغلها ويلتقطها، ونكتشف بأثر رجعي أنها كانت موجودة ونلوم أنفسنا كيف لم نرى هذه الإمكانية للمقاومة.
يجب أن نفرق بين التحليل الموضوعي الذي يحلل وضع المجتمع الفلسطيني وأزماته، وبين من يرفع شعار أننا في مرحلة سيئة كي يبرر التنازلات.
وفي نفس الوقت، دائماً ما يحضر سؤال القيادة في أي حراك نضالي يخوضه الفلسطينيون، هل ترى أنه يجب توفر قيادة لنجاح الحراكات؟ أم أن القيادة تفرزها الشارع المنتفض؟
من قال إن الحراك لا يملك قيادة؟ نعم لا يوجد قيادة بالمعنى التقليدي للكلمة، لكن في الحياة لا يحصل أي شيء دون مبادر أو فاعل يجر المقطورة، فالقيادة موجودة دون أن يكون لها الشكل التقليدي، ودائما التحدي باستمرار الفعل بتحويله لشكل منظم، طبعاً لهذا الشكل له سلبيات وإيجابيات.
في المرحلة الحالية، يجب أن لا نقفز لهذا السؤال لأن الميدان يعمل والمطلوب أن نسنده، وليس من خلال فرض قيادة عليه.
في سياق آخر، واجه الاقتصاد المقدسي أزمة كبيرة بعد جائحة كورونا وهناك مخاوف لدى قطاع من التجار من المواجهات الحالية، كيف يمكن للمجتمع أن يساهم بحل هذه الأزمة وتسكين مخاوف الفئات التي تضررت خلال الفترة الماضية؟
الناس خرجت من فترة صعبة كان مجرد الخروج من البيت حدثاً "كبيراً"، ومن جانب آخر أصاب البلدة القديمة الشلل خلال العام ونصف، بعد انتشار فيروس كورونا، لذلك نتفهم أن التجار الذين ينتظرون شهر رمضان لتعويض الخسائر التي لحقت بهم، ويجب أن لا نزاود عليهم، وكل إنسان يهمه أن يحافظ على مصدر معيشته، لأن مصدر المعيشة يساوي الكرامة.
من واجبات مساندة هبة باب العامود، تنفيذ مبادرات تشجيع الاقتصاد المقدسي في الفترة الصباحية مثلاً، أو محاولة تقليل الضرر من خلال يملكه الناس من قدرات، ومن المهم أن يشعر هؤلاء الناس أن هناك من يهتم لهم، والمجال مفتوح للمبادرات التي تشجع اقتصاد البلدة القديمة.
إذا خسرنا المعركة الاقتصادية في البلدة القديمة، فهي مصيبة، لأن حركة الناس ستقل وهذا يفتح المجال لحركة ميلشيات المستوطنين بشكل أكبر.