يذهب الكيان الصهيوني اليوم إلى انتخاباته الرابعة في أربعة وعشرين شهراً، في أسوأ أزمة سياسية يمر بها منذ تأسيسه. تتمحور الأزمة في الشكل حول شخص بنيامين نتنياهو، والإرادة الواسعة لدى معارضيه في إقصائه دون تمكنهم من ذلك الآن. وبينما كان الخناق يشتد على نتنياهو؛ كان التحالف مع قوى اليمين المتطرف وجماعات المعبد رهان نتنياهو الدائم لحماية نفسه، ما منحهم نفوذاً مضاعفاً في العامين الماضيين، إذ باتوا أقرب حلفائه في حكومات تسيير الأعمال المتتالية، وطوق نجاته الوحيد من محاكمات الفساد.
في الجولات الانتخابية الثلاث السابقة كان التحدي الأبرز لنتنياهو هو ائتلاف الجنرالات الثلاثة الوافدين إلى السياسة من قيادة الجيش –بيني غانتس وجابي أشكينازي وموشيه يعلون- مع قوى يمين الوسط، لكن هذا الائتلاف لم يفلح في الإطاحة بنتنياهو، ويمكن التأريخ لنهايته بانضمامه إلى حكومة وحدة تحت قيادة الأخير في 2020 تحت عنوان مواجهة جائحة كورونا. اليوم يأتي التحدي الأرز الذي يتعرض له نتنياهو من داخل كتلة اليمين الديني-القومي التي يقودها، وتحديداً من جدعون ساعر الذي انشق عن الليكود ليشكل كتلة "الأمل الجديد" التي يمكن لها مع بقية كتل اليمين أن تشكل بديلاً لنتنياهو في قيادة هذا المعسكر، لكن حظوظها في ذلك محدودة.
الخلاف على نتنياهو ليس فقط خلافاً على زعامة شخصية، بل هو إلى جانب ذلك تعبير عن استقطاب مستحكم: قوى يمين-الوسط القومية بات حجمها معرَّفاً لا يزيد، وحين حسم أفيغدور ليبرمان زعيم حزب البيت اليهودي تموضعه معها حوّلَها إلى كتلة مانعة، تقابلها كتلة اليمين القومي-الديني التي بات حجمها محدداً هي الأخرى، إلا إذا ما أقنعت جمهور اليمين الأكثر تطرفاً بأن يذهب إلى صناديق الاقتراع على غير عادته، فهذا جمهور يعتبر أن لا أحد يعبر عنه، ولا حتى نتنياهو، ولذلك تحجم كتلة كبيرة منهم عن التصويت، ومعظمهم مستوطنون في الضفة الغربية.
في مشهدٍ كهذا يتواصل تحول الكيان الصهيوني من اليسار إلى اليمين بشكلٍ جديد، إذ بات الانتقال في قيادة المشروع الصهيوني يتم داخل اليمين الديني القومي نفسه، فمن ينجح باستقطاب المتطرفين أكثر سيبقى الزعيم، وهو ما ينجح نتنياهو في فعله مرة بعد مرة دون أن ينافسه أحد في ذلك، ولا يبدو أن غريمه المنشق عن الليكود جدعون ساعر مرشحٌ لهذه المهمة فهو أقرب إلى الجانب العلماني في هذا الطيف.
جماعات المعبد التي تجعل بناء المعبد المزعوم في مكان الأقصى وعلى كامل مساحته أجندتها المركزية كانت في القلب من هذا المشهد، فهي استفادت من الاتجاه السابق لصعود اليمين على حساب اليسار لتقفز من صفر تمثيل في الكنيست إلى 18 مقعداً في آخر برلمان للاحتلال، ومن صفر تمثيل حكومي إلى الاستحواذ على ثلث حكومة تسيير الأعمال في عام 2019، تستفيد اليوم من هذا الحراك داخل قوى اليمين القومي-الديني لتعزز نفوذها وتدخل عناصرها الأكثر تطرفاً إلى النظام السياسي.
وحتى نترجم ذلك إلى وقائع: في الانتخابات الأولى في هذه الأزمة في 4-2019 حاول نتنياهو جمع الأحزاب المتطرفة الصغيرة في كتلة واحدة ليضمن تجاوزها العتبة الانتخابية (3.25% من الأصوات كحد أدنى للحصول على مقاعد)، ولما فشل حاول عقد اتفاق مع أكثرها تطرفاً "القوة اليهودية" بقيادة إيتمار بن جفير، التلميذ الوفي للحاخام مائير كاهانا زعيم حركة كاخ، وعندما أفشلت المعارضة الداخلية في الليكود ذلك خاض الانتخابات وخسر أصوات اليمين المتطرف. في الانتخابات الثانية في 9-2019 عقد نتنياهو اتفاقاً مع موشيه فيغلين زعيم حزب الهوية بدخول قائمة مشتركة شرط تقديم تسهيلات لاقتحامات الصهاينة للأقصى، وهذا ما حصل بالفعل. في الانتخابات الثالثة في هذه الأزمة في 3-2020حاول نتنياهو التحالف مع إيتمار بن غفير مباشرة، لكن الأخير اشترط فتح الأقصى للاقتحامات يوم السبت، وهو ما رفضه نتنياهو خوفاً من رد الفعل، وقد عاد بعد أسبوع ليقول بأنه لو وافق على هذا الشرط لفاز في الانتخابات، وهو ما قد يُفهم على أنه وعد مبطن بالتعامل مع هذا الشرط لاحقاً.
اليوم، وأمام الانتخابات الرابعة في الأزمة والتي تجري اليوم 23-3-2021، عاد نتنياهو إلى محاولته الأولى، فتمكن من تشكيل كتلة موحدة لأحزاب اليمين المتطرف التي تميل للتشظي بسبب خلافات أيديولوجية صغيرة، وقد أعلن هذا الائتلاف بالفعل في الثالث من شباط الماضي، ثم عقد معهم بعدها بأسبوع اتفاقاً لتبادل فائض الأصوات، وهي اتفاقات سائدة في النظام السياسي الصهيوني كي لا تضيع الأصوات التي لا يسمح عددها بالتحول إلى مقعد إضافي فتمنح للحليف الأقرب ليحصل هو على مقعد بضمِّها إلى فائض أصواته.
شروط الاتفاق كالآتي: يتعهد الائتلاف أن لا يقبل بأي رئيس وزراء سوى نتياهو لمدة عامين تقريباً، وبالمقابل يتعهد نتنياهو بمنحهم مقاعد حكومية رغم كل المعارضات. محصلة الاتفاق: سيحاول هذا اليمين أن يضمن لنتنياهو فوزه بما يحميه من خصومه ومن محاكمات الفساد، بالمقابل سيصبح بن جفير الداعي لإقامة المعبد اليهودي والمطالب بفتح الأقصى للاقتحامات يوم السبت وزيراً في حكومة نتنياهو. جماعات المعبد قرأت هذا التطور، فوجهت في 7-3-2021 رسالة إلى نتنياهو تطلب فيها تمكينها من ذبح قربانٍ حيواني في الأقصى في عيد الفصح اليهودي الذي سيبدأ يوم الأحد 28-3-2021 أي بعد خمسة أيام من الانتخابات، وهو هدف تحلم به تلك الجماعات منذ 2007.
خلاصة القول، إن فاز تحالف اليمين القومي-الديني في الانتخابات، أو إن فشل منافسوه في إقصائه واستمر في تسيير الأعمال، فإن جماعات المعبد الأكثر تطرفاً سيصبح لها وزير في حكومة نتنياهو إضافة لنفوذها الكبير السابق، وسيكون تحول كاهانا قد اكتمل: من حزب معارضة منبوذ في بيئة صهيونية علمانية إلى قطب في حكم الكيان الصهيوني في بيئة صهيونية دينية، وسيصبح الأقصى بذلك في قلب الخطر أكثر من أي وقتٍ مضى.