جاءت القرارات بإغلاق الضفة الغربية بسبب انتشار وباء كورونا، في ظل فضيحة توزيع ما تيسّر من لقاحات بصورة تسيئ إلى السلطة، خصوصًا بعدما تردد عن نفي الديوان الأردني تلقيه لقاحات من السلطة كما صرحت وزارة الصحة الفلسطينية، وأن اللقاحات التي وصلت إلى الأردن تلقاها مسؤولون فلسطينيون وعائلاتهم، في وقت حرج جدًا عشية تقديم القوائم الانتخابية الذي سيبدأ في العشرين من هذا الشهر، وينتهي بنهايته، هذا إن جرت الانتخابات، ما يضع صعوبات جديدة، خصوصًا على القوائم المستقلة، فكيف سيجتمعون لمناقشة توفير متطلبات الترشيح، من الاتفاق على البرنامج السياسي الاجتماعي الاقتصادي، إلى جمع ثلاثة آلاف توقيع، وعشرين ألف دولار لم يتم تخفيضها استجابة لتوصية من حوار القاهرة.
والغريب أن السلطات الحاكمة عادة ما تسترضي عشية الانتخابات شعبها وترشوه، أما عندنا فيحدث العكس، فبعد التهديدات للفتحاويين لمنع ترشحهم خارج القائمة المركزية في تجاوز لروح حركة فتح الأصلية التعددية، وبعد رفض الأخذ بتوصيات حوار القاهرة حول استقالة الموظفين ورفع تمثيل المرأة وتخفيض سن الترشح ورسوم التسجيل والتأمين؛ لم يتوقف سيلان القوانين بمراسيم، ويطغى عليها مزيد من التحكم من السلطة التنفيذية بكل السلطات، فبعد الإجهاز على استقلالية السلطة القضائية، أتى الدور على الجمعيات الأهلية التي يراد تحويلها إلى ملاحق للوزارات، ولم تبق الاتحادات والنقابات بعيدة عن التدخل التعسفي، فجرى تأجيل انتخاباتها ستة أشهر، في تجاوز لقوانينها ولوائحها الداخلية.
أما مرسوم الحريات فلم يغير الحال كثيرًا، فالمطلوب إطلاق سراح المعتقلين على خلفية سياسية ولو وضعوا تحت عنوان آخر، والالتزام بالحقوق والحريات الطبيعية والمتضمنة في القانون الأساسي، وليس إصدار مراسيم، وكأن الحريات والحقوق منحة أو مكرمة من أحد، وليست حقوقًا يجب تلبيتها وتنظيم ممارستها وحمايتها.
البعد السياسي للانتخابات وأهمية البرنامج السياسي
هناك قوائم حزبية وبصورة أكبر مستقلة تهمل البعد السياسي للانتخابات بأعذار مختلفة، منها أن البرنامج السياسي معروف ولا خلاف عليه، ومنها أننا الآن في مرحلة لا نستطيع فيها تحرير البلاد، ولا وقف الاستعمار الاستيطاني، ولا وقف هدم المنازل والاعتقالات، وأقصى ما نقدر عليه - كما يزعمون – ويجب أن نهتم به ونعطيه الأولوية هو كيفية توفير رغيف الخبز، والصحة والتعليم، والخدمات العامة الحيوية الأخرى.
بكل أسف، تصب هذه الآراء من دون قصد غالبًا في صالح رؤية "السلام الاقتصادي"، التي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منذ سنوات كثيرة، وأخذت ترددها أصوات عربية وفلسطينية، وهي تريد أن تعزل الإنسان الفلسطيني عن حقوقه العامة التي لا يمكن فصلها عن حقوقه الفردية، فهو إنسان جزء من شعب، ومن حقه ممارسة حقوقه، مثل حقه في تقرير المصير والوجود الوطني في دولة، إلى حق العودة والتعويض للاجئين، والمساواة لشعبنا في الداخل، على طريق إنجاز الحل التاريجي الجذري عل كل فلسطين من خلال إقامة دولة ديمقراطية يعيش فيها الجميع من دون تمييز ولا عنصرية.
لا يمكن تأجيل كيفية مواجهة الاحتلال وإجراءاته، بحجة أن الأولوية لتوفير مقومات الحياة المعيشية، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن الاحتلال يتعمق، ويعتمد سياسة القضم المتدرج والضم الزاحف، وكل ما يقوم به يمس بشدة الحياة المعيشية للشعب بشكل عام، وكل فلسطيني بشكل خاص.
فعندما يصادر الاحتلال الأرض ويستعمرها ويهوّدها، بما في ذلك الأقصى ودور العبادة، ويطرد سكانها، ويمنعهم من التنقل في الشوارع وزيارة ممتلكاتهم ومنازلهم ومزارعهم بحرية، بحجة أنها مناطق عسكرية، فذلك يمس بشدة الحياة المعيشية.
وعندما يطلق الاحتلال قطعان المستعمرين المستوطنين المدججين بالسلاح لممارسة كل أنواع الاعتداءات ضد الفلسطينيين، من قطع الطرقات، إلى حرق الأشجار وسرقة المحاصيل، والاعتداءات على المنازل والسيارات والمساجد، خصوصًا في المناطق المحاذية للمستعمرات والشوارع التي يستخدمها المستعمرون، فذلك يمس الحياة المعيشية.
وعندما يقوم الاحتلال بعزل القدس عن بقية الأرض المحتلة العام 1967، ويحاصر ويعتدي على قطاع غزة ويحوله إلى أكبر وأطول سجن في التاريخ، فذلك يمس الحياة المعيشية.
وعندما يمارس جنود الاحتلال والمستعمرين سياسة القتل البارد في وضح النهار وأمام الكاميرات، ويعتقل العشرات بشكل يومي، ويأسر الآلاف وراء القضبان، ويعتقل أو يهدد بالاعتقال شخصيات لمنعها من الترشح في محاولة للتأثير على نتائج الانتخابات، بما قد يؤدي إلى منع إجراء الانتخابات، وإذا جرت يأمل أن تصب نتائجها لصالح الاحتلال، أو من خلال تعطيل المجلس التشريعي، ومنعه من ممارسة دوره التشريعي، والرقابة على الحكومة، بما يضمن مساءلتها ومنع احتكار السلطة التنفيذية لكل السلطات، وتكريس سلطة الحكم الذاتي، وتمديد المرحلة الانتقالية، فكل ذلك يمس الحياة المعيشية.
على هذا الأساس المطلوب أن يحرص الناخبون على أن تكون الانتخابات، إن جرت، فرصة لإحياء القضية والمشروع الوطني ولتحسين الحياة المعيشية، وأن ينتخبوا القوائم التي تلتزم بالعمل من أجل جعل الانتخابات خطوة على طريق إنهاء الاحتلال وتجسيد الحرية والاستقلال، وليس تكريس سلطة أوسلو والتزاماتها إلى الأبد، والعمل على تغيير السلطة لتخدم البرنامج الوطني، وتكون قولًا وفعلًا إحدى أدوات منظمة التحرير الموحدة.
من غير المقبول في هذا السياق القول إن دور النواب فقط العمل على تقديم الخدمات، تحت حجة أن السياسة مسؤولية منظمة التحرير، وذلك لأن أعضاء المجلس التشريعي كما اتُفق في حوار القاهرة أعضاء طبيعيون في المجلس الوطني، المرجعية العليا للمنظمة، وبالتالي دورهم الأساسي دور سياسي يترابط مع مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن اللافت للنظر أن مجموعات وشخصيات من داخل "فتح" وخارجها تدعو إلى توحيد الحركة رغم الخلافات الواسعة، أو إلى تشكيل قائمة مشتركة مع "حماس"، أو قائمة واحدة مع مختلف الفصائل، أو تشكيل قائمة واحدة لفصائل منظمة التحرير من دون الالتفات إلى البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي، فهناك خلافات واسعة داخل "فتح"، وأكبر بينها وبين "حماس"، وداخل فصائل منظمة التحرير، والتفكير في قائمة واحدة بين مختلفين جوهريًا ما هو سوى تغليب المصالح الفردية على المصالح الوطنية، وتحايل على الانتخابات، ومحاولة لهندستها وضمان نتائجها، وهو ما يتناقض مع جوهر العملية الانتخابية.
على سبيل المثال، كيف يمكن أن يكون في قائمة واحدة من يدعو إلى المقاومة كأسلوب رئيس، ومن يريد أن يعيدنا إلى المفاوضات العبثية كطريق رئيسي، ومن يدافع عن نظام سياسي مستبد، وآخر يريد نظامًا ديمقراطيًا يناسب مرحلة التحرر الوطني، وبين من يؤمن أو لا يؤمن بدور الشباب وضرورة أخذهم لدورهم كاملًا، وبالمساواة بين الرجل والمرأة على أساس أن المرأة نصف المجتمع، ومن حقها أن تمثل على الأقل بنسبة 30% في المجلس التشريعي وفي مختلف المؤسسات، وبين الفاسد ومحارب الفساد.
الخلاصة مما سبق أن الأولوية الوطنية شديدة الارتباط بالأولويات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية، وإذا لم يُحدد الهدف الوطني المركزي وتوضع التصورات والخطط الكفيلة بتحقيق إنهاء الاحتلال وتفكيك المستعمرات بالاعتماد على توفير مقومات الصمود والتواجد الشعبي والمقاومة المثمرة، مع الاحتفاظ بالحق في ممارسة كل أشكال المقاومة بأسرع وقت وأقل التكاليف، سنجد أنفسنا أمام موجة تهجير جديدة، والذي لا يصدق عليه أن يتوقف أمام دلالات أن أعداد المستعمرين في الضفة تقترب من مليون مستعمر استيطاني عنصري، وليرَ الخطط الموضوعة لزيادة هذه الأعداد بشكل متسارع، وسط سيادة الأحزاب والتيارات الاستعمارية العنصرية الأكثر تطرفًا في إسرائيل، بعد تحويل العنصرية إلى دستور عبر إقرار قانون القومية العنصري، فضلًا عن أن الأغلبية في إسرائيل أصبحت من دعاة إقامة "إسرائيل الكبرى"، ومواصلة تطبيق سياسة الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وأقل عدد ممكن من السكان.
في هذا السياق، وضعت خطط التهجير إلى قطاع غزة بعد توسيعه من سيناء، وإلى الأردن تحت خطط عديدة، منها: "الأردن هو فلسطين"، و"الوطن البديل"، إضافة إلى فكرة الكونفدرالية مع الأردن قبل التحرير والاستقلال لدولة فلسطين، التي تصب في صالح تنفيذ التهجير بشكل شرعي وغير مرئي. فالمواطن الفلسطيني في ظل الكونفدرالية يمكن أن ينتقل من منطقة إلى أخرى من دون أن يعتبر ذلك تفريغًا للوطن الفلسطيني من أصحابه الأصليين.
فوضى القوائم وحمى التنافس على المراكز الأولى فيها
هناك حمى انتخابية تظهر في أن الكثير الكثير من الأفراد داخل الفصائل والمستقلين يجدون أنفسهم بأنهم مناسبون للترشح في الانتخابات القادمة، وهذا من حقهم، ولكننا وجدنا الكثير من الشطط في هذا الموضوع.
فهناك من أعلن بعد الاتكال على الله أنه سيرأس قائمة، أي أنه حتى قبل أن يتشاور مع أحد، عيّن نفسه على رأس القائمة، أو وضع نفسه في مكان مضمون، وكل شيء بعد ذلك تفاصيل.
وهناك من دعا إلى تشكيل قائمة للمقدسيين وأخرى للغزيين، وثالثة للشباب، ورابعة للنساء، وخامسة للحراكات، وسادسة للفنانين، وسابعة للمزارعين، وثامنة وتاسعة وعاشرة ... والحبل على الجرار.
ثمة فوضى وتبعثر يحيطان بالقوائم، لا سيما ابتعادها عن وضع البرنامج أولًا، ووضع معايير وطنية ومهنية وموضوعية للترشح ثانيًا، على رأسها توضيح الفرق بين المرشح للمجلس التشريعي وبين المرشح في انتخابات محلية أو نقابية أو خيرية أو مدنية ... إلخ، وبين الحراك على موضوع واحد، والعمل من أجل الحفاظ على الأمر الواقع، أو العمل على إصلاحه أو تغييره.
لا بد من التوقف أمام الوعي والتأهيل والوزن الشعبي والانتماء الوطني والخبرة المناسبة للنائب الذي يتطلب دوره مناقشة السياسات والقوانين، ومنح الثقة أو حجبها عن الحكومة أو وزير بعينه، وهذا يختلف عن التأهيل والوعي والخبرة المناسبة لقطاع معين أو حراك معين، على أهمية أن تكون كل القطاعات والمطالب العامة ممثلة في المجلس القادم، ولكن ضمن هذا الفهم يجب العمل على اختيار النائب.
كذلك لا بد من فهم ما معنى الانتخابات التشريعية، أي السياسية العامة في بلد تحت الاحتلال، ويعاني من الانقسام بين سلطتين متنازعتين اتفقتا خلافًا للمنطق على إجراء انتخابات قبل إنهاء الانقسام، وقبل توحيد المؤسسات في سلطة واحدة، الأمر الذي سيؤدي في أحسن الأحوال، إذا لم تحمل نتائج الانتخابات فوزًا لقوائم قادرة على كسر الاستقطاب الثنائي والتقدم على طريق إنهاء الانقسام، إلى شرعنة الانقسام، وإدارته، وربما تعميقه.
إن كثرة القوائم وابتعاد أكثرها عن فهم طبيعة الانتخابات التشريعية، والتزاحم على المقاعد الأولى في القوائم، تدل على غياب المشروع الوطني الجامع والمؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة الواحدة، وعلى غياب معايير الترشح والبرنامج المناسب للانتخابات الحالية والمرحلة الراهنة، حتى أصبح كل فرد يبحث عن خلاصه الفردي، وكل مجموعة عن خلاصها الخاص.
لا يمكن أن تأخذ القدس حقها إذا حصلت قائمة مشكلة من المقدسيين على عدد من المقاعد، بل إذا وضعت كل أو معظم القوائم القدس في صدارة الاهتمام. وكذلك الأمر بالنسبة إلى غزة والخليل ونابلس والشباب والمرأة والحراكات، وهذا إن حدث وبكثرة سيجعل الانتخابات منصة جديدة للمزيد من التشرذم والانقسام.
تأسيسًا على ما سبق، ولمنع تشرذم الوضع الفلسطيني أكثر، لا بد من جعل إعادة تعريف وإحياء المشروع الوطني، ووحدة الشعب والأرض والقضية، وأولوية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أسس وطنية ومشاركة حقيقية وديمقراطية توافقية تتناسب مرحلة التحرر الوطني، في صدارة الاهتمام، جنبًا إلى جنب مع القضايا المعيشية والاقتصادية والاجتماعية.