ما زلت مقتنعًا أكثر من السابق بأن إجراء الانتخابات أولًا قفزة في المجهول، لا سيما من دون الاتفاق على برنامج القواسم المشتركة، خصوصًا السياسية، وأسس الشراكة، وتوحيد المؤسسات، وإنهاء الانقسام والهيمنة من فصيل على السلطة في الضفة الغربية والمنظمة، وهيمنة فصيل على السلطة في قطاع غزة، وفي ظل التفاهمات الفتحاوية الحمساوية، وما يمكن أن تقود إليه الانتخابات من شرعنة الانقسام، وتجديد الشرعية للقيادة والنخب الحاكمة هنا وهناك، والحفاظ على الوضع القائم، هذا إذا لم تكن خطوة إلى الوراء وتعمّق الانقسام.
عقبات أمام الانتخابات
إن ما يجري على الأرض يؤكد ذلك، فالانقسام يحاصر الانتخابات، ويهددها بالإلغاء أو التأجيل، بدليل عدم معالجة معاناة غزة، وتأجيلها مع كل إفرازات الانقسام إلى ما بعد الانتخابات، وعدم أخذ الرئيس محمود عباس حتى الآن بالتوصية الجماعية لحوار القاهرة بخصوص تعديل قانون الانتخابات، فيما يخص خفض سن الترشح، ورفع نسبة تمثيل المرأة، وإلغاء استقالة الموظفين وقبولها كشرط للترشح، وعدم المحكومية، وتخفيض الرسوم والتأمين، إضافة إلى عدم تعريف من هي الشرطة التي ستوفر أمن المقرات الانتخابية في قطاع غزة، والالتباس بشأن ما جاء في قانون الانتخابات حول انتخاب رئيس دولة فلسطين في انتخابات تشريعية للسلطة.
كما توجد خلافات أخرى حول تفسير وتطبيق مرسوم الحريات، وعدم إطلاق سراح كل المعتقلين على خلفية سياسية، وعدم شموله قضايا مهمة كالمواقع الإلكترونية المحجوبة، وتوجيه تهديدات بالمنع بالقوة لكل من يفكر من أعضاء "فتح" بالترشح ضمن قوائم أخرى، وتأجيل البت بمعالجة تغوّل السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، رغم أنه أمر خطير جدًا يهدد نجاح العملية الانتخابية ونتائجها، فضلًا عن الخلاف حول اتفاقية الغاز، وعدم وضوح الصورة حول مصير اجتماع آذار الذي يعالج المنظمة، الركن الثالث والأهم في مسلسل الانتخابات، الذي لم يحدد موعده حتى الآن، مع إطلاق تصريحات قيادية بتأجيله إلى ما بعد الانتخابات التشريعية.
لقد بتنا في وضع أصبح فيه عدم إجراء الانتخابات مطروحًا، ولكنه أمر صعب جدًا، وله تداعيات كبيرة، لأن التأجيل سيكون سببه داخليًا، ويتعلق بالخوف من التصويت الشعبي، إلا إذا وفر الاحتلال الذريعة. فالتأجيل سيقضي على ما تبقى من مصداقية وشرعية للسلطة والقيادة والنخبة الحاكمة أمام الشعب الفلسطيني أولًا، والعالم كله ثانيًا، ومن المفترض أن إجراء الانتخابات بات تحصيلًا حاصلًا ومفروضًا بعد كل التحضيرات والاندفاع الشعبي نحوها، ولكنه يحمل مفاجآت ستقلب كل الحسابات والمخططات.
ولتوضيح ما سبق نشير إلى أن القاطرة التي حملت التفاهمات بين حركتي فتح وحماس هي الاتفاق على التركيز على إجراء الانتخابات أولًا، وتأجيل كل شيء إلى ما بعدها، وعلى هندسة الانتخابات لتأتي بنتائج مضمونة، من خلال الاتفاق على تشكيل قائمة وطنية واحدة، وعلى أن يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا للانتخابات الرئاسية، والاتفاق على تشكيل حكومة توافقية مقبولة دوليًا بغض النظر عن نتائج الانتخابات.
على الرغم من كل ذلك، يمكن تحويل الانتخابات من مشكلة إلى فرصة للتغيير. ولكن كيف؟
القائمة الواحدة في مهب الريح
لقد جرت الرياح بما لا تشتهي سفن التفاهمات، بدليل أن القائمة الوطنية الموحدة تواجه صعوبات كبيرة جراء المعارضة الواسعة لها من داخل "فتح" و"حماس" والفصائل اليسارية، ومن داخل الشعب الذي يعتبرها، بسبب استمرار الانقسام وعدم الاتفاق على برنامج مشترك، محاولة للالتفاف والتحايل على الإرادة الشعبية.
وإذا لم تنجح المحاولات لتشكيل قائمة وطنية واحدة ستنهار بقية التفاهمات، بما في ذلك الاتفاق على أن يكون الرئيس مرشحًا توافقيًا في الانتخابات الرئاسية. وإذا نجحت ستكون القائمة مشكلة من حركتي فتح وحماس وبعض الفصائل الميكروسكوبية، وليس مضمونًا فوزها، بل ستواجه سيناريوهات عدة.
القدوة: إما الاستمرار أو الانتحار السياسي
سيفتح انهيار التفاهمات الباب لكل الاحتمالات على إمكانية عقد أو تأجيل الانتخابات، وعلى نتائجها، بحيث يمكن أن تصبح مغالبة بدلًا من المشاركة، ويمكن في هذه الحالة أن "تدعوس" القوائم بعضها بعضًا، بحيث يمكن أن تسعى "فتح" للفوز مع حلفائها، وكذلك "حماس" وحلفاؤها، أو سيظهر طرف ثالث قوي مشكل من قائمة الدكتور ناصر القدوة، خصوصًا إذا ما تلقت الدعم، أو المشاركة الكاملة، من الأسير مروان البرغوثي، من دون أن يعني ذلك التخلي عن مخططه لخوض الانتخابات الرئاسية، من خلال أن يكون المرشح رقم 132 في القائمة، أي من دون أن يكون له فرصة بالفوز، ويضمن الترشح للانتخابات الرئاسية، إضافة إلى تلقي القائمة الدعم من حركة فتح واليسار والمستقلين.
وفي هذا السياق، تتكثف المحاولات الفتحاوية لإقناع ناصر القدوة بعدم المضي في مخططه لخوض الانتخابات على رأس قائمة وطنية ديمقراطية متنوعة وواسعة قادرة على تحقيق نتائج معتبرة.
وإذا خيّرت اللجنة المركزية ناصر القدوة وغيره من"المتمردين" المحتملين بين الفصل أو الالتزام بقرارها ستخسر، لأن ما قاله القدوة ويكرره وضع سقفًا عاليًا لا يسمح له بالتراجع عنه، حيث غدا التراجع انتحارًا سياسيًا .
أما إذا اكتفت "المركزية" استلهامًا بطبيعة "فتح" الأصلية، التي تجمع كل الأطياف، بدعوته للتراجع، مع غض النظر عن قراره بخوض الانتخابات بقائمة مستقلة وتركه ليجرب حظه، بحيث إذا حصلت القائمة التي سيشكلها على مقاعد كثيرة يمكن أن تحسب بشكل أو بآخر لصالح "فتح"، وإذا فشلت ولم تجتز نسبة الحسم أو حصلت على مقاعد قليلة فستكون درسًا بليغًا له ولكل من تسوّل له نفسه شق عصا الطاعة.
الرئيس واللجنة المركزية لفتح في وضع صعب واختبار مصيري، كون القدوة، ومن معه، لا يسعى للحصول على بضعة مقاعد، وإنما للفوز لتحقيق الهدف الذي أعلنه والتزم به، وهو إجراء تغيير في النظام السياسي الذي لم يعد بالإمكان إصلاحه.
"التشريعي" ممر ضروري إلى الرئاسة
كما أن خارطة سياسية جديدة في المجلس التشريعي وحدها تفتح الطريق على منافسة حامية على الانتخابات الرئاسية، خصوصًا في ظل نية مروان البرغوثي المنافسة وسط تقديرات بتوفر فرصة كبيرة له بالفوز بغض النظر عمن سيكون منافسه، سواء كان الرئيس عباس أو غيره.
و"حماس" هي الأخرى في وضع صعب، فقد أبدت مرونة كبيرة، وقدمت تنازلات، سواء بغض النظر عن عودة السلطة إلى التزامات أوسلو، أو بموافقتها على التمثيل النسبي الكامل، وما يعنيه ذلك من عدم حصولها على الأغلبية، مقابل احتفاظها بالسلطة في القطاع، وتجديد شرعية مشاركتها في السلطة عبر الانتخابات، وما يمكن أن تحصل عليه من حرية حركة لتنظيمها في الضفة، مع الوعد بأن تشارك مشاركة فاعلة بالمنظمة، وهذا كله بات معرضًا للانهيار.
ما سبق يعني أن محطة الانتخابات التشريعية ونتائجها وثيقة الارتباطات بمحطة الانتخابات الرئاسية واستكمال المجلس الوطني. فإذا حصل تغيير جوهري في "التشريعي" يمكن أن يزيد من إمكانية وصول أو عدم وصول قطار الانتخابات إلى الانتخابات الرئاسية، وهذا أمر يستحق التفكير مليًا من البرغوثي الذي ينتظر تشكيل قائمة فتح المركزية، وما إذا كانت تعبر بشكل ديمقراطي عن فتح، مركزًا حتى الآن على مشاركته في الانتخابات الرئاسية.
وإذا وصل القطار إلى محطته الثانية فمن المشكوك أن يصل إلى المحطة الثالثة، مع ضرورة العمل والضغط لكي يصل، لكن ضمن مقاربة مشاركة كاملة مقابل وقف الهيمنة والسيطرة، وهذا إن حصل سيؤدي إلى حدوث اختراق وتغيير جوهري في الرئاسة.
سيناريوهات فيما يخص مروان البرغوثي
السيناريو الأول: تأجيل الانتخابات الرئاسية حتى إشعار آخر، وهذا بعد معرفة نتائج "التشريعي"، وهو ما يفسر الإصرار الغريب على أن تكون الانتخابات متتابعة وليست متزامنة، كما ينص القانون الأساسي للسلطة، وكما هو طبيعي ومنطقي .
السيناريو الثاني: عدم ترشح الرئيس عباس للرئاسة، ومساهمته في اختيار مرشح آخر من حركة فتح، وهذا أمر صعب في ظل توجّه الرئيس نحو الترشح، ومع تزاحم المتنافسين على الخلافة الذين لن يؤيدوا بسهولة ترشيح مروان البرغوثي.
السيناريو الثالث: عرض منصب نائب الرئيس، أو رئيس المجلس التشريعي، على مروان البرغوثي، ومن غير المرجح أن يحصل، وإذا حصل لن يجد هذا السيناريو الاستجابة.
السيناريو الرابع: قيام حكومة الاحتلال بإطلاق سراح مروان البرغوثي، (مع أنّ هذا مستبعد، ولكن لا يجب إسقاطه كليًا من الحساب)، ضمن اتفاق ضمني بألا يخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، وذلك لكي تتجنب وجود رئيس فلسطين بالأسر، وما يمكن أن يسببه من إحراج لحكومة الاحتلال، وما يمكن أن يؤدي إليه من ضغوط فلسطينية وعربية ودولية لإطلاق سراحه.
التغيير ممكن ... والأمل موجود
إذا كانت الانتخابات تعددية وتنافسية تشارك فيها قوائم ذات رؤية بأهمية وأولوية التغيير والتجديد والإصلاح الشامل السياسي والديمقراطي والمؤسسي، وتكون جزءًا من أحزاب أو تيارات لا يرتبط وجودها بالانتخابات فقط، وإنما ستعمل بكل أشكال العمل السياسي قبل وبعد وعبر الانتخابات ومن دونها، بما يعني ضرورة طرح برنامج ملموس متعدد الأبعاد السياسية والكفاحية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والقانونية قابل للتحقيق، ترفعه قوائم شكلت على أساس معايير وطنية وديمقراطية وموضوعية ومهنية مؤهلة بعيدًا عن الفساد، وتغطي كل المناطق والقطاعات. فهذا يمكن جدًا أن يبعث الأمل الغائب الذي طال انتظاره، وإذا عاد الأمل سيحقق الشعب الفلسطيني المعجزات.
تأسيسًا على ما سبق، لا بد العمل والضغط لإجراء الانتخابات في مواعيدها، وتوفير ما أمكن من مستلزمات أن تكون حرة ونزيهة واحترام نتائجها، من خلال تعديل قانون الانتخابات وفق التوصية المرفوعة من حوار القاهرة. فالانتخابات فرصة، وربما تكون الأخيرة في المدى المنظور للتغيير الإيجابي، الذي يسير بنا إلى الأمام، فهناك تغيير سلبي يمكن أن يحدث ويسير بنا إلى الخلف.