بيت حجري في حي النصارى، داخل السور القديم في القدس، وستة شبان بينهم فتاتان يتهامسون بين الجدران السميكة، إنها السنة العاشرة منذ أن دخل جنود الاحتلال السور القديم، ولم ينتهوا بعد من التجول في الأزقة، فلم يكن هناك مفر من التهامس.
داخل البيت قائد المجموعة، سليم رزق، في زاوية إحدى الغرف وحيدًا يقلّب بين أصابعه أسلاكًا وصاعقًا كهربائيًا. في الغرفة المجاورة فريال، ابنة البيت الذي يفصل بينه وبين باب بيت عائلة سليم متر واحد، عرض الزقاق الدرجي للحارة التحتا في الطيبة، شرق رام الله.
على مسافة الهمسة من فريال، الشاب سمير، ابن قرية البرّية المهجرة، الذي قدم أهله الطيبة لاجئين عام النكبة، الذي ولدت فيه فريال. ربما كانا يتناقشان في تفاصيل عمليتهم صباح اليوم التالي، وربما كانا يجربان قدرة الهمس على القول والكتم فحسب.
لكن الهمس ينقطع فجأة، ويملأ البيت صوت سليم القادم من الغرفة الأخرى، عاليًا علو صوت من يعرف أنها صرخته الأخيرة: "فلتت الساعة، اطلعوا!". كان آخر ما لمحته فريال قبل أن تقفز نحو الباب هو سليم منحنيًا، مقوسًا كما الأم فوق رضيعها، يطبق يديه على ما تدلت منه أسلاك الساعة المنفلتة، ويشد أجفانه شد الصمت على الجرح.
منحنية، تشد أجفانها كالصمت على الجرح، كانت ابنتها نبال، تطبق يديها على النعش الخشبي، في مدخل مقبرة الطيبة. صعدت فريال قرط إلى حيث تصعد الورود عندما تنفلت الساعة، بعد معركة مع فيروس كورونا. خاضتها كما يخوض أبطال الأساطير معاركهم الأخيرة: بجسد منهك، وبروح ترفض الاعتراف بانفلات الساعة. "كانت على فراش الموت تسألني عن حال النشاط النسوي في الاتحاد"، قالت إحدى تلميذاتها يوم دفنها. أرادت أن تختم الساعة المنفلتة دقتها الأخيرة بها، وهي تقاتل، بطريقة أو بأخرى.
جبال المنطقة الشرقية تختفي تحت ستار عابس من الضباب، تتسرب من بين أصابعه بلورات الثلج أفواجًا غاضبة، تتكوم لتخنق الطرقات. جرار زراعي قديم يتحدى شتاء عام 1992 ومنع التجوال الاحتلالي. يجرّ عبر التلال الوعرة عربة كانت قد تحولت إلى سرير مريض اسمه حنا سمارة. عجلات الجرار تتزحلق على أكوام الثلج سائقها يدير المقود، يرجع شوطًا للخلف، ثم يعيد الكرة، يقطع المسافة من أطراف الطيبة إلى مركز طبي ما، مترًا مؤلمًا بعد متر.
كانت الطريق في أولها، لكن المعركة مع الثلج ومنع التجوال، كحال الانتفاضة في تلك السنة، كانت في آخرها. لكن سائق الجرار لا يعترف بانفلات الساعة، حتى يأتيه صوت من العربة خلفه: "خلص، لف وارجع. البقية في عمرك". وسط الضباب العابس، توقف محرك الجرار الزراعي، وبلورات الثلج لم تزل تهجم أفواجًا على كل شيء، تخنق كل الطرق بأبيض ماحق كالعدم. ذلك المساء، في منزل ما في الطيبة، وسط دقات جرس الكنيسة المتعب وبكاء طفلة ابنة ثلاث سنوات، فقدت فريال قرط شريك حياتها.
بلورات الثلج بدأت تبرز من وسط أبيض ماحق كالعدم يخنق سماء المنطقة الشرقية. النعش الخشبي يتوسط مدخل المقبرة، ومبخرة تتأرجح متوترة في يد الكاهن، تدور حول النعش مالئة برد شباط صخبًا بأجراسها النحاسية. صليب طويل بيد قسيس شاب يغلق حلقة من مشيعين قلائل، تعلو أفواههم كمامات طبية، بعضها تبلل دون مطر. وسط الحلقة غصن زيتون يستريح فوق الغطاء الخشبي، وابنة الثلاثين لم تنه بكاءها. أجراس المبخرة تدق، تدور متوترة، وفوق النعش ابنة تنفلت من بين أجفانها آخر دقات الساعة، فقدت لتوها تلك التي صارت ذات مساء من ثلج ومنع تجوال، أمها وأباها معًا.
أسود ماحق كالعدم كان ما رأته فريال حين استعادت وعيها في غرفة أحد المشافي في القدس. يد محققة الاحتلال تنزع الضمادات عن وجهها وتناديها: "فريال! بتعرفي شو صار معك؟". أنين آلة ما يأتي من بعيد. إنه قياس نبض الجسد المكبل بالحروق والقيود فوق السرير. الساعة لم تزل تدق إذن. "فلتت الساعة يا فريال"، تقولها المحققة ببطئ وإصرار وابتسامة تشفي. تسحب من خلفها مرآة وتدفعها إلى وجه الأسيرة المحترقة، ذات العين الواحدة. "شوفي شو عملتي في حالك يا فريال. مش حرام؟". أنين آلة قياس النبض يأتي من بعيد، الساعة لم تزل تدق، والباقي مجرد تفاصيل. يتسارع أنين الآلة، وصوت فريال ينزل إلى الوجود عبر جرح بعمق التاريخ، كنزول الكلمة في الجسد: "ناديتيني باسمي، فريال. أنا كنت فريال، ولا زلت فريال". أنين الآلة يتسارع، وابتسامة التشفي تذوب كقناع من الشمع فوق ملامح الخيبة، والساعة لم تزل تدق.
أنين صوت المرتل يقفل بيت الصلاة الأخير خلف صوت الكاهن، في مدخل المقبرة. اللحن البيزنطي في حنجرة المرتل يعلن أن الساعة قد أنهت انفلاتها، لكنه يواصل أنينه، كأنما ينتظر بدء الترتيلة من جديد. أمام النعش تلميذة سابقة أتت تودع معلمتها. تقف قاطبة حاجبيها كسلسال ساعة معلقة على أنين صوت المرتل، الذي لم ينه انطفاءه بعد. تسترجع التلميذة في أنين الترتيلة حصة تاريخ قديمة، تعلمت فيها ذات يوم شكل الوطن من رأس الناقورة كظل جسد ينزل إلى رفح، يدور حول النقب ويصعد متعرجًا حتى الجليل. كاملًا، ساطعًا، جميلًا، كابتسامة معلمتها فريال وهي تنطق الاسم فيما تشير إلى الخارطة: "فلسطين". تلك الابتسامة التي لم تفارقها منذ أن خرجت من الزنازين حية. تلك الابتسامة التي لمعت على ملامح طلبتها الذين لم يبلغوا العشرين ذات شهر كانون، وهم يرسمون بعلب الدهان شكل الوطن على جدران شوارع الطيبة. مثلما هي عادة الترتيل البيزنطي، لا يلبث ينتهي، حتى يبدأ من جديد، والساعة التي انفلتت، لم تزل تدق.
فتى لم يبلغ العشرين يقف أمام الجنازة. تعلق من ذراعاه وزن علم ثقيل يلاطم الريح، وفتاة لا تكبره بكثير على يمينه، تقرع فوق طبل كشفي عزفة حداد. خلفهما النعش، وأنين الترتيل البيزنطي. ابنة، وتلميذة سابقة، ومشيعين قلائل علت أفواههم كمامات طبية، تبلل بعضها من دون مطر، يمشون تحت النعش الخشبي إلى حيث ترقد الورود حين تنفلت الساعة. تثور المبخرة، تتأرجح جامحة حول المثوى المفتوح، وآخر نحيب ينسكب كفنجان ذبيح فوق النعش، يعلو على أصوات المرتلين قبيل انسدال التراب على القصة. وفوق الرؤوس علم عتيق يلاطم الريح. ربما يجرب وإياها قدرة الهمس على البوح والكتم فحسب، وربما يحاول أن يصرخ، بأنه ليس يهم كم مرة تنفلت الساعة، بل المهم هو أنها لم تزل تدق.