أطلق الناشطون الفلسطينيون حملة على مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل عنوان "متواصلون" ردّاً على تهم وجّهها الاحتلال الإسرائيلي لمعتقلين فلسطينيين من الضفّة الغربية، والأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، بالتواصل مع فلسطينيين آخرين خارج حدود التصنيف الاستعماري لهم، حتّى لو كانوا من أقاربهم.
يتضح من هويات المعتقلين، وتفاصيل التهم الموجّهة لهم، أنّ الاحتلال لا يخشى من هذه الحالات العينية بأن ينطوي تواصلها على احتمالات تنفيذ عمليات مقاومة، ولكنه يهدف من هذه التهم المصاحبة للاعتقال الفعلي، إلى أمرين اثنين؛ الأول أمني بفرض عملية مراقبة ذاتية على الفلسطينيين كي لا تتوسّع أشكال التواصل الإنساني والاجتماعي والثقافي والسياسي إلى أنماط من العمل المقاوم، والثاني (وهو الأهم) استراتيجي، للإجهاز على ما تبقى من الكيانية الفلسطينية والإحساس الجمعي بوحدة الشعب الفلسطيني.
مزقت الوقائع والسياسات الاستعمارية الفلسطينيين إلى تجمّعات متعدّدة، بظروف متباينة، وبهويّات مختلفة. فقد فرض الاحتلال على الفلسطينيين الذين ظلّوا في أراضيهم المحتلة عام 1948 مواطنة إسرائيلية ناقصة في ذاتها وتنتقص بدورها من هويتهم الفلسطينية، ثم قسّمهم إلى مجموعات بحسب انتماءاتهم الدينية والطائفية وأطرهم الاجتماعية. وفي حين عاش الفلسطينيون في الضفّة الغربية وقطاع غزّة ظروفاً متشابهة، ظلّ الاحتلال يمايز بين هذه الظروف، ويمعن في فصل غزّة عن الضفة، وعن عموم فضائها الفلسطيني، ولا سيما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، وهو الأمر الذي تعزّز بالانقسام الفلسطيني.
لا تنبغي، والحال هذه، الغفلة عن اشتغال الاحتلال المحموم على تفتيت فلسطينيي الضفّة، بتقسيمها إلى ثلاث مناطق كبرى، تفصل بينها معابر يسيطر عليها، في حين يمسك بمفاصل الحركة في كلّ منها، وذلك في إطار سياسات الضمّ، مما من شأنه أن ينتهي، بمرور الوقت، إلى فوارق اجتماعية وسياسية جوهريّة، واختلاف أدوات الضبط المحلّية، أمنية وسياسية.
كان الكفاح المسلح المنطلق من مخيمات اللجوء في الدول المحيطة بفلسطين، قد ساهم مساهمة كبرى في بلورة الهوية الفلسطينية، وإتمام الكيانية الفلسطينية، وحشد الفلسطينيين في العالم وتأطيرهم واستثمار طاقاتهم لأجل القضية الفلسطينية، واستنقاذهم من التفتّت جرّاء الانفصال الجغرافي عن فلسطين وظروف مواقعهم الجغرافية المختلفة والسياسات المتعدّدة إلى درجة التناقض في تعامل الدول العربية معهم، بيد أنّ توقيع اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية التي ابتلعت بدورها منظمة التحرير، وفشل بقية القوى الفلسطينية المعارضة لخطّ منظمة التحرير في تعبئة الفراغ وإعادة الاستثمار في فلسطينيي الخارج بما يليق بوزنهم ودورهم التاريخي ومكانتهم الجوهرية من القضية الفلسطينية، قد ارتدّ على الكيانية الفلسطينية بالتفتيت بما يلتقي مع السياسات الصهيونية الاستعمارية.
ولم يكن الفلسطينيون في القدس بمنأى عن هذا التفتيت، لا في المبتدأ الذي عدّهم فيه الاحتلال مجرّد طارئين مقيمين لا يملكون هوية منبثقة عن أرضهم، ولا في السياسات المستمرة من الخنق والطرد والإفقار، وعزلهم عن امتدادهم الطبيعي في الضفّة الغربية، وفرض الاغتراب عليهم، فلا همّ من فلسطينيي الضفّة الغربية ولا من فلسطينيي الـ48، وبالرغم من ذلك، فإنّ الهبّات، والحالات الكفاحية، منذ العام 2014، والتي كسرت سياسات التدجين، وتجاوزت فشل المنظومة الفصائلية، انطلقت من القدس المحتلّة، وكانت تستجيب لها الجماهير الفلسطينية في الضفّة الغربية بأشكال متفاوتة من مكان إلى آخر.
هذا التفتيت التأسيسي للكيانية الفلسطينية أخذ قفزة هائلة بالسياسات الفلسطينية الخاطئة، المتمثلة بالدرجة الأولى في توقيع اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، مما أفضى بالضرورة إلى إخراج فلسطينيي الـ48 من الكيانية الفلسطينية، وتحويل المقدسيين إلى قضية منتظرة على ملفات حلّ نهائيّ لن يأتي، بينما أجهز تماماً على دور فلسطينيي الخارج، ثم شرخ الفلسطينيين بين سلطتين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، وأدخلهم في ملهاة أشبه بالمتاهة، كلّ حلول الخروج منها تُقترح من داخل المسار، مما يبقيهم في المتاهة ذاتها.
إنّ إعادة الاعتبار للكيانية الفلسطينية، ووصل تجمعات الفلسطينيين في إطار رؤية واحدة، لا يمثّل تحدّياً لسياسات التفتيت الاستعماري فحسب، بل مراجعة ضرورية لمسارات العبث والإلهاء التي حُشر فيها الفلسطينيون، بما يخدم سياسات التفتيت، ويكرّسها، بما في ذلك إعادة تدوير مشروع السلطة الفلسطينية على الأسس نفسها التي قام عليها، والاستمرار في مصادرة دور فلسطينيي الخارج، والعجز عن استثمار الهَبّات المقدسية وعوامل التثوير في الضفّة الغربية، وترك فلسطينيي الـ48 لمصيرهم أمام تغوّل المؤسسة الصهيونية، واشتغالها على تحطيم مجتمعاتهم، وإدارة بعض التنظيمات الفلسطينية هياكلها الداخلية وفق المحاصصة المناطقية بما يتناغم في النتيجة مع الانفصال الجغرافي القهري المفروض استعماريّاً، بما يجعل سياساتها فريسة التربيطات الداخلية، ورهينة مراكز القوى، على حساب الرؤية الجامعة، والتكامل الوطني، وبما يحول دون امتلاك مشروع حقيقيّ للتحرير.
في المقابل مثّلت الهبّات المقدسية، وامتداداتها الضفّاوية، وبعض الاستجابات لها في فلسطين المحتلّة عام 48، واحتفاظ المقاومة في قطاع غزّة بإمكانات إنجاز مشروع بديل، والعديد من المبادرات الشعبية، والطاقات الهائلة التي يكتنزها أبناء شعبنا في العالم، مع فشل خطّ التسوية، وكارثية الإصرار على عدّ السلطة سبيلاً وحيداً للعبور والخروج من المأزق.. فرصاً مفتوحة ومستمرّة ومتجدّدة، لمن يسأل عن البديل، وآفاق العمل الممكنة، بعيداً عن المسارات الفاشلة، وبما يؤكّد أنّ المشكلة ليست في الممكنات في الواقع، بقدر ما هي في سوء الإدارة، وشلل الحيوية التنظيمية، وجمود التفكير السياسي.