"التنسيق الأمني مقدس، وسنستمرّ فيه سواءً اختلفنا أو اتفقنا في السياسة". (محمود عباس 28 أيار 2014)
"... كان عليّ أن أحارب عدم التعاون، لأنّه بدون تعاونٍ لا يُمكنني العمل". (مناحيم ميلسون)
“ ليس ثمّة فعلٌ حسنٌ أو سيءٌ في حدّ ذاته، وحده موقعه في النظام يجعله خيراً أو شرّاً". (ميلان كونديرا، المزحة)
****
توطئة
منذ انعقاد "ورشة المنامة" وما تلاها من موجة التطبيع مع العدوّ، عادت السلطة بقياداتها وناطقيها ومثقفيها إلى استخدام وصف الخيانة لإدانة المشاركين في صفقة القرن، ناعتةً الصفقة بالحلّ "الخيانيّ"، وذلك بعد سنواتٍ طويلةٍ انهمكت فيها في نقد وإدانة ثقافة التخوين، والدعوة والتنظير لثقافة التعدّد وقبول الرؤى السياسيّة المختلفة. وفي السياق ذاته، كرّر محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، في خطاباته المتتالية "ضدّ الصفقة"، أنّ السلطة قامت وتقوم بكل تفانٍ بوظيفة المخبر الأمين ضدّ شعبها لمنع أيّ عملٍ "إرهابيّ" ضدّ "إسرائيل"، مستخدماً هذا التذكير كمحاججةٍ رئيسيّةٍ للقول إنّ السلطة لا تستحق هذا الخذلان القاسي من الأمريكان، ومنوّهاً بأنه ليس في مقدور أيّ جهازٍ أمنيّ "غير وطنيّ" القيام بهذه الوظيفة مهما كانت إمكانياته!
وفي مطلع العام المنصرم، أصدر فيصل دراج، الناقد الفلسطيني المعروف بجذريّته النقدية، سيرةً تمجيديةً لآل عبد الهادي بصفتهم نموذجاً لـ "النخبة الوطنية"، لم يأتِ فيها على ذكر أحد أعيان "العائلة الحسيبة"، وهو فخري عبد الهادي "المتعاوِن" مع الإنجليز في قمع الثورة الفلسطينية الكبرى 1936. وفي مقدّمة كتابه الصادر حديثاً والموسوم بـ "نكبة وبقاء"، يقول المؤرّخ عادل منّاع إنّه يروي في كتابه حكاية العرب ممّن بقوا في فلسطين خلال حرب النكبة 1948 وكان ثمن بقائهم في بلادهم هو التعاون مع المنتصرين المحتلّين مقابل السماح لهم بالبقاء على أرضهم، مفرّقاً بينهم وبين الشيوعيّين الفلسطينيّين المنتمين للحزب الشيوعيّ "الإسرائيلي"، والذين كان التعاون مع المحتلّ بالنسبة إليهم تعبيراً عن قناعةٍ أيديولوجيّةٍ وبهذا يستحقون الإدانة؛ أيّ بين التعاون "المتفهَّم" والتعاون المُدان؟
تنتمي الشواهد السابقة إلى سياقاتٍ سياسيّةٍ ومعرفيّةٍ متعدّدة، يجمعها أنها تتعلّق بظاهرةٍ تاريخيّةٍ اجتماعيّةٍ عرفتها كلّ الشعوب التي خضعت للاستعمار والاحتلال الأجنبيّ، وجرى التواضع على تسميتها في العلوم الاجتماعية بـ "التعاون مع المحتلّ" [1] كمصطلحٍ تحليليٍّ "موضوعيّ" متخففٍ من الحكم القِيَميّ، أو ما يُطلق عليه العمالة أو الخيانة في الخطاب الوطني. ولم يكُن الفلسطينيون استثناءً بين الشعوب التي خضعت للاستعمار والغزو، فقد تعاون بعضهم مع الاحتلال ولا زال إلى يومنا هذا، وسقط في الوقت ذاته المئات منهم شهداء في مقاومة المتعاونين.
مع ذلك، ولأسباب متعدّدةٍ تتعلّق بـ "حساسيّة" الموضوع، لم تتحوّل ظاهرة "التعاون مع المحتلّ" إلى موضوعٍ للبحث الاجتماعيّ والتاريخيّ في الكتابة الفلسطينية، وإذا ما تطرّقت لها اختزلتها في الجوسسة والتخابر وتسريب الأرض للمحتلّين، على الرغم من أنّ العلوم الاجتماعية في العالم قد قطعت شوطاً لا بأس به في بحثها، وصار لدينا حقلٌ دراسيٌّ يُمكن تسميته بـ "دراسات التعاون مع الاحتلال الأجنبي".
ولا يعني قولنا هذا غياب التطرّق لهذه الظاهرة هنا وهناك في سياق الكتابة التاريخيّة الفلسطينيّة، ولكنّها بقيت غائبةً في الكتابة البحثيّة في العلوم الاجتماعيّة من ناحية استخدام "التعاون مع المحتلّ" كأحد المنظورات التحليليّة لفهم واقع المجتمع الفلسطيني (داخل فلسطين التاريخيّة بصرف النظر عن التقسيمات الاستعماريّة) تحت الاستعمار، أو لفهم التحوّلات السياسيّة في هذا المجتمع من خلال رصد تحوّلات معنى التعاون مع المحتلّين فيه، وصولاً إلى محاولة بلورة نظريّةٍ حول التعاون مع المحتلّ في السياق الفلسطينيّ مبنيةٍ على بحثٍ استقرائيّ تجريبيّ يغوص في تفاصيل الواقع المعاش.
يُنبئنا تاريخ الاستعمار أنّ التعاون مع المستعمِرين ليس حدثاً شاذّاً عن منطق الحالة الاستعماريّة وبُنيتها، بمعنى أنّ الاستعمار لم يكُن ممكناً دون تعاون فئة، عادةً هي من النخبة، وإنْ كان ممكناً من دونها لم يكُن ليستمرّ ويتوطّد بدونها، وأنّ الصراع معه ومن ثمّ التحرّر منه كان في في الوقت ذاته صراعاً مع هذه الفئة، وأنّ شكل سيطرته (أيّ الاستعمار) على من يخضعون له حدّدها التعاون معه بقدر ما حدّدتها مقاومته. ومن هنا يمكننا القول إنّ إغفالنا لدراسة "التعاون مع المحتلّ" يعني بالضرورة أنّ وعينا بالحالة الاستعماريّة هو وعيٌ مجزوء. في هذه العجالة، أحاول تقديم مجموعة من الملاحظات أو الفرضيّات كمقدّماتٍ حول ظاهرة "التعاون مع المحتلّين" يُمكنها أن تشكّل مدخلاً للبحث المنهجّي في هذه الظاهرة.
(1)
لا يخفى على القارئ أنّ الاقتراب البحثيّ من مسألة التعاون مع المحتلّين هو بمثابة سيرٍ في حقلٍ من الألغام له محاذيره السياسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة، منها الحذر من التساوق مع "بروبوغاندا" الأنظمة العربية القائلة إنّ الفلسطينيّين باعوا أرضهم وتعاونوا مع محتلّيهم، للتغطية على فشل هذه الأنظمة في المواجهة حيناً وتآمرها على القضية الفلسطينية في أحيان كثيرةٍ خاصةً في زمن التطبيع الجارف هذا. وليس من السهل على الفلسطينيّ الذي اعتاد على رؤية ذاته ضحيةً لتواطؤ العرب مع العدوّ الصهيوني ضدّه، أن يُخضع ذاته للبحث من زاوية تواطؤ بعض أبناء جلدته ضدّه. ومع كلّ ذلك، لا يُمكن لشعبٍ حيٍّ قاتل ويقاتل منذ أكثر من مئة عامٍ بشجاعةٍ وعناد ألّا ينظر بذات الشجاعة إلى تاريخه وراهنه وأسباب فشله في تحقيق هدف التحرّر الوطني إلى الآن؟
بعيداً عن الإجابة الكسولة المريحة التي تحيل هذا الفشل حصراً إلى بطش العدوّ واختلال موازين القوى أو قصور القيادة، لا يقصد هنا بالبحث أن يتمّ "نبش" التاريخ والحاضر بقصد الفضح والإدانة التي تأخذ في كثيرٍ من الأحيان شكل الفعل التطهريّ، وإنّما المقصود هو السعي إلى الوعي بالتاريخ والراهن في سبيل بناء ثقافةٍ وطنيّةٍ نقديّةٍ بأدواتٍ معرفيّةٍ تحليليّةٍ تشكّل فيها دراسة "التعاون مع المحتلّ" منظوراً لفهم الكليّة الاستعمارية من حيث كونها (أيّ هذه الكليّة) نتاجاً للتفاعل الجدليّ ما بين السلطة الاستعماريّة ومقاومتها والتعاون معها.
دعونا هنا نقدّم التعريف الإجرائيّ البسيط التالي للتعاون مع الاحتلال: علاقةٌ ما بين السلطة الاستعماريّة وشريحةٍ اجتماعيّةٍ من المستعمَرين تقوم على مصلحةٍ مشتركةٍ للطرفين والمنفعة المتبادلة. وإنْ كانت هذه العلاقة ما بين طرفين غير متكافئين في القوّة، فإنهّا لا تأخذ بالضرورة صورة العلاقة التشغيليّة بين صاحب العمل والعامل، ولا تخلو من التوتّرات والمفاوضة والمناورة.
(2)
على الرغم من أهمية التحرّر من "الحكم القِيَميّ"، ثنائيات الخير والشرّ والبطولة والخيانة، للوصول إلى فهم ظاهرة التعاون موضوعيّاً كغيرها من الظواهر الاجتماعية، إلا أنّ إمكانية التحرّر هذه تبقى مسألةً صعبةً ومركّبة، فمهما قُلنا عن ضرورة تخلّي الباحث عن حُكمه القِيَميّ المسبق في البحث كشرطٍ للنظر الموضوعيّ إلا أنّ عملية البحث ذاتها وما تنتجه من معرفةٍ هي في الحقيقة تدخلٌ سياسيّ شئنا أم أبينا في تشكيل الموقف المعياريّ الأخلاقيّ من التعاون.
وتبدو هذه المسألة أكثر تعقيداً إذا ما تنبّهنا إلى أنّ المنهج النقديّ الموسوم بـ ( المابعد بنيوي في العلوم الاجتماعية)، والذي يقوم على الافتراض بأنّ التعريفات والأحكام القِيَميّة ما هي إلّا أحد منتجات علاقات السلطة في المجتمع، ساعياً لإظهار تحيّزاتها المضمرة وقائلاً بنسبيّتها، فإنّ هذا المنهج والقول بالنسبية جرى ويجري استخدامه سياسياً في السجالات حول التعاون وإدانته بالقول إنّ الخيانة هي مسألةٌ نسبيّة و"وجهة نظر"، وبالتالي لا يحقّ لأحدٍ أن يخوّن أحداً.
إذن، الصراع على تعريف التعاون كخيانة أو نفي هذه الصفة عنه لا ينفصل عن الصراع الدائر داخل المجتمع المستعمَر، وعادةً ما يأخذ هذا الصراع المفاهيميّ شكلاً مراوِغاً من مثل سجالاتٍ حول الواقعيّة السياسيّة والمبدئيّة، والاعتدال والتطرّف. وفي حالاتٍ محدّدة، يتمّ تكثيف التعاون "الملعون" في حالةٍ تاريخيّةٍ أو فئةٍ اجتماعيةٍ يتمّ تشكيلها كأيقونةٍ للشرّ المطلق وشيطنتها بصفتها خائنةً وعميلةً (من مثل روابط القرى أو بعض الدروز أو المتخابرين مع العدو) في سبيل إعادة تعريف التعاون المقبول والتعاون المدان والمجرم.
(3)
من أكثر المقولات شيوعاً في الثقافة السياسيّة الفلسطينيّة هي مقولة "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر" عند الحديث عن الخيانة والعمالة وقد علا صوتها. تُنسب هذه المقولة لأكثر من شخصيّةٍ ثوريّةٍ فلسطينيّة، ولا يهمنا التدقيق هنا في صاحب المقولة، التي هي على الأغلب تحويرٌ لمقولةٍ لـ "ديغول": "الخيانة ليست وجهة نظرٍ"، في معرض تعليقه على تعاون الجنرال "بيتان" البطل القومي الفرنسي السابق والعميل الألماني اللاحق. ولكن دعونا نُخضِع هذه المقولة للفحص من ناحية البحث في آليات تحوّل الخيانة إلى وجهة نظرٍ بمعنى انهيار مرجعيّةٍ قِيَميّةٍ تُدين وتعاقب، ونشوء مرجعيّة قِيَميةٍ مغايرةٍ تتسامح مع بل وتبرّر.
يعنينا مساءلة هذه المقولة مبتدئين بفرضيةٍ تقول إنّ ما يُطلق عليه خيانة عبر التاريخ كانت بالفعل وجهة نظرٍ تعبّر عن رؤية ومصلحة فئةٍ ما، وقد تنجح هذه الفئة في بعض الحالات إلى خلق هيمنةٍ اجتماعيّة، أيّ جعل رؤية هذه الفئة الخاصّة رؤيةً عامّةً أو شبه عامة. وهي عملية تحويل المنظومة القِيَمية ورؤية العالم الخاصّة بفئةٍ اجتماعيةٍ متغلّبةٍ اقتصاديّاً وسياسيّاً إلى وجهة النظر الاجتماعية العامّة، بعد أن تكون هذه الفئة أو التيّار قد حسمت الصراع السياسيّ لصالحها، أيّ نجحت في تحويل تغلّبها السياسيّ إلى تغلّبٍ قِيميّ أيديولوجيّ، مع ضرورة التنبيه أنّ هذه العملية لا يُمكنها الوصول إلى حدّ الإجماع التامّ حولها.
بهذا، تصبح عملية فحص ودراسة مفاهيم التعاون (الخيانة والعمالة) وتحوّلات معانيها هو من قبيل النقد الأيديولوجيّ للمجتمع عبر تتبّع خيوط هذه العملية المكوّنة من المؤسّسات، أيّ الأجهزة الأيديولوجيّة (الإنتاج الأكاديميّ والمدرسة والإعلام والثقافة الشعبية) والممارسات الخطابيّة المتباينة والمتعاضدة في تشكيل هذه المعاني، ويُقصد بالممارسات الخطابيّة اللغة والمعاني وأسلوب الحديث عن التعاون والمفردات المستخدَمة فيه. مثلاً كيف تشكّل معنى التنسيق الأمنيّ في المجتمع؟ وكيف موّه معناه تحت مسمّى التنسيق وحاجة الناس اليوميّة إليه في علاجها وأمورها الحياتيّة؟ وكيف تمّ ويتمّ تحويله إلى جزءٍ من العقيدة الأمنيّة في ذهن منتسبي الأجهزة؟ ومنه كيف صار قسم الولاء للدولة الصهيونية في الكنيست فعلاً وطنياً؟
دون أن يعني ذلك أنّنا نرى العلاقة ما بين أيديولوجيا النخب المتعاوِنة وما بين نظامها القِيَميّ والمعرفيّ الذي تسرّب للحسّ العام للناس علاقةً مباشرةً ولا يتمّ تحدّيها، فالإنتاج المعرفيّ الأكاديميّ حول "التعاون مع العدوّ"، على سبيل المثال، لا يعبّر بالضرورة عن علاقةٍ آليةٍ مباشرةٍ مع النخب المتعاوِنة، بمعنى أنّ هذا الإنتاج مُصمَمٌ بوعي ليقوم بهذه الوظيفة وإنّما قد تكون الأرضية لهذا الالتقاء هو الاشتراك في أيديولوجيا سياسيةٍ كالواقعيّة أو البرغماتيّة أو الانتماء الطبقيّ.
(4)
هل يقتصر فعل التعاون مع المُحتَلّ على النخبة المجتمعيّة كما هو متعارفٌ عليه ومتوقّع؟ أم أنّ العامّة يُمكنها أن تكون متعاونةً أيضاً؟ وهل تعاون العامّة هو فرعٌ لأصلٍ هو تعاون النخبة؟
قلنا إنّ التعاون مع المحتلّين سياسيّ، مبنيٌّ على التقاء مصالح مشتركةٍ بين شريحةٍ اجتماعيةٍ والسلطة الاستعمارية، وعادةً ما تكون هذه الشريحة في أعلى الهرم الاجتماعيّ من طبقةٍ برجوازيّةٍ أو ذات خلفيةٍ عائليّةٍ حسيبة أو أصولٍ إثنيّةٍ معيّنة. في المقابل قد يكون التعاون مع المحتلّين وسيلةً أيضاً لزعاماتٍ وشرائح أقلّ حظّاً للتحصّل على قوّةٍ اجتماعيّةٍ اقتصاديّةٍ لمنافسة شرائح اجتماعيّةٍ ذات هيمنةٍ وسلطةٍ في المجتمع.
وبما أنّ قوّة الفئات المتعاوِنة وشرعيّتها عند المحتلّين تقوم على مدى قدرتها على ضبط المجتمع بما يتلاءم مع مصلحة المستعمِر، فإنّ نظاماً زبائنيّاً ينشأ ويتكثّف حول المتعاوِنين وتتبلور شبكةٌ من العلاقات التي تشكّل قنواتٍ لتوزيع ريع التعاون. وبهذا، تتوسع الشرائح الاجتماعيّة المرتبطة بهذا النظام شيئاً فشيئاً وتتغلّغل في أنسجة حياة المجتمع، ويصبح استقرار نظام التعاون مصلحةً مجتمعيّةً عامّةً؛ أيّ يتحوّل التعاون من علاقةٍ خارجيّةٍ ما بين شريحةٍ مجتمعيّةٍ وسلطةٍ استعماريّةٍ إلى علاقةٍ داخليّةٍ مجتمعيّةٍ في الاقتصاد السياسيّ للمجتمع المُستعمَر.
وهذا بالطبع لا يعني عدم تشكّل عدّة بؤر للعلاقة التعاونيّة، بعضها مخطّطٌ ومقصودٌ تبادر إليه السلطة الاستعماريّة لتقليم أظافر الشرائح المتعاوِنة متى بدأت تحاول تحسين شروط تعاونها والحصول على مزيدٍ من الامتيازات في مسعاها نحو هدفها الأسمى المتمثّل في استلام مكان السلطة الاستعماريّة واستبدالها بسلطة البرجوازية الوطنية. وبعضها الآخر (من البؤر التعاونية) ينشأ في سياق الصراع الداخليّ من بين الشرائح الاقتصادية والزعامات السياسيّة المحليّة. وفي المحصّلة، يتعمّق ويتوسّع نظام التعاون في المجتمع ولا يعود مسألةً خاصّةً بالنخبة والشرائح الاجتماعيّة العليا.
وهنا لا بدّ لنا أن نفرّق ما بين نشوء هذه البنية السياسيّة والاقتصاديّة للتعاون وتوسّعها مجتمعيّاً، وما بين التعاون كاستراتيجيةٍ يلجأ إليها الأفراد مضطّرين من أجل البقاء ومقاومة السلطة التي لا يستطيعون مواجهتها قريباً من مفهوم "المقاومة بالحيلة".
(5)
من المؤكّد أنّ وصف التعاون بالعمالة/الخيانة له تبعاته "السلبيّة" على كلّ ما يتعلق بإدارة الخلاف والاجتهادات في الحقل السياسيّ "الوطني" للمستعمَرين، وكذلك على الحاجة لبناء جبهاتٍ وتحالفاتٍ وترتيب البيت الداخليّ والوحدة الوطنيّة وتغليب التناقض الرئيسيّ على التناقضات الفرعيّة، وقد أدّت هذه النظرة "السلبية" إلى شيوع اعتبار التخوين علامةً على مراهقةٍ سياسيّةٍ ومزايداتٍ في المعجم السياسيّ الفلسطيني. وقريبٌ من هذا، انتقاد ثقافة التخوين من حيث كونها تعبيراً عن موقفٍ من امتلاك الحقيقة ومصادرة حريّة الاجتهاد والتفكير.
لكن في مقابل ما سلف، فإنّ عدم القدرة على وصف فعلٍ ما بالعمالة والخيانة علامةٌ على تفكّك المنظومة القِيَميّة في المجتمع، وبالتالي تفكّك هويّته بأبسط التعريفات للهوية؛ ما يجعلنا نحن وما يجعلهم هم العدوّ والنقيض، بعد أن يكون قد تآكل الحدّ الفاصل بين الـ (نحن) والـ (هم) بفعل التعاون، يموت المجتمع كشعبٍ ويصبح جموعاً بلا هويةٍ و بلا وجهةٍ وغايةٍ وراية.
ومع كل ذلك، فإنّ التخوين في هذه الحالة هو سلاحٌ ذو حدين، بمعنى أنّ وصف فئةٍ أو فعلٍ بالخيانيّ دون أن يستتبع هذا الحكم زجرٌ يساهم في إفراغ المفهوم من مضمونه وتحويله إلى وصفٍ شكليّ.
فما الذي يحوّل فعلاً ما إلى الجرم الأشنع في التاريخ الإنساني ألا وهو الخيانة؟ من هو الخائن؟ ولماذا يخون؟ وما أنواع الخونة؟ وهل الخيانة درجات: تواطؤٌ سلبيّ وتواطؤٌ إيجابيّ، تطبيع، جوسسة أو وشاية؟ تخبرنا دراسات التعاون مع الغزاة والمحتلّين بأنّ الغالبية العظمى من الخونة والمتعاوِنين لم يروا في التعاون فعلاً ضدّ الانتماء الوطنيّ بل يتّسق مع صدق الانتماء، وفعلاً من أجل مصلحة الوطن، وقد اتّخذت هذه المصلحة عناوين متعدّدةً من مثل إنقاذ ما يُمكن إنقاذه أو كاستراتيجية أو للبقاء أو للصراع الداخليّ (الاستعانة بالخارج ضدّ الأنظمة وفي الحروب الأهلية ).
(6)
إذن، لم يكُن دافع التعاون مع العدوّ والتواطؤ معه والعمالة عبر التاريخ دافعاً أيديولوجياً، أيّ الإيمان بصدقيّة المحتلّ، ولا يتعلّق أساساً بنوايا سيئةٍ أو عطبٍ أخلاقيّ عند المتعاوِن. وإنّما كانت الخيانة (التعاون) تأخذ شكل المصلحة وأهدافاً مشتركةً ما بين المحتلّين والمتعاوِنين "المحليّين"، وكان التعاون كما قلنا في كثيرٍ من الأحيان قراراً عقلانياً يحقّق مصلحة الوطن ويعبّر عن وطنيّةٍ صادقة.
أطلقت حكومة "فيشي" العميلة لألمانيا النازيّة ثورةً أسمتها الثورة الوطنية، واعتمدت على رموز قوميّةٍ مقاتلةٍ للغزاة كـ "جان داراك"، بل وكانت تلاحق الجواسيس والمخبِرين الذين كانوا يقدّمون خدماتٍ لجهاز المخابرات النازيّ بالدافع المادّي أو التعاطف مع النازية، وذلك في مسعاها إلى تركيز التعاون مع العدوّ في يديها ومن ثمّ التحسين من وضعها التفاوضيّ مع الألمان لمصلحة الوطن فرنسا. ومن هنا نصل إلى ضرورة تحديد المعيار بعيداً عن القشرة الأيديولوجيّة والنوايا والهوية الشكلانيّة لظاهرة التعاون لتوصيفها عمالةً وخيانةً أمّ اجتهاداً سياسيّاً؟
لا يبقى بعد تقشير بيضة التعاون سوى الدور والوظيفة التي يقوم بها المتعاوِنين، الوطنيّين بطبيعة الحال! بمعنى الدور التاريخيّ في لحظةٍ تاريخيّةٍ محدّدة، ما دمنا قد ارتضينا التحليل الاجتماعيّ دليلاً لنا في أحكامنا، أيّ تحوّل ما يُبرّر بالاضطرار أو المناورة أو المغامرة لمغافلة موازين القوى في لحظةٍ تاريخيّةٍ إلى بُنيّةٍ اجتماعيّةٍ سياسيّة، والمقصود بالبنية مؤسّساتٌ وقنواتٌ وممارساتٌ ذات ثباتٍ وديمومةٍ معيّنة، تستوعب الفعل السياسيّ وتعرف حدوده وأساليبه بشكلٍ يساهم في إعادة إنتاج حالة الخضوع للاستعمار.
(7)
التعاون مع المحتلّين في فلسطين
من المسلّم به أنّ الشعوب لا تحبّ أن تنشر غسيلها الوسخ، الذي ترفرف العمالة على أعلى حباله. وقضية التعاون، كغيرها من قضايا الوجود التاريخي للشعوب، تخضع لسياسات كتابة التاريخ، من حيث كون هذه الكتابة وسيلةً للتذكّر أو النسيان في بناء السرديّات الوطنيّة وعند مهندسي الذاكرة الجمعية. يتمّ تشكيل هويّةٍ وطنيّةٍ تتمحور حول ثنائيّة البطولة والمظلوميّة والاعتزاز القوميّ الوطنيّ دون أن يعني هذا هيمنة النخبة الكاملة على صناعة السرديّات الوطنيّة، فللعامّة أيضاً طرائقهم ومعجمهم الاجتماعيّ في وصف التعاون والمتعاونين قد يتقاطعا وقد يفترقا.
في الحالة الفلسطينية، حيث لا زال الصراع ملتهباً مع المستعمِرين وما يمليه هذا الصراع من إنتاج شكلٍ مقاتلٍ من السرديّة الوطنيّة لا مكان فيها لتاريخ المتعاونين، وإنْ تعرّضت لهذا الإرث لا تُسمّى "الأشياء بمسمياتها"، ولو على الأقل بمسمّياتها المحتمَلة، وتُختزل الخيانة غالباً بعمل المخبِر أو الواشي الجاسوس أو السمسار وبائع الأراضي ولا تتعدّاها إلى التعاون البنيويّ طويل الأمد من قبل النخبة السياسيّة بأطيافها المتعّددة، والذي يأخذ أشكالاً أكثر مراوغةّ ولا يسهُل معالجته.
وفي هذه المسألة، تلتقي الكتابات التاريخيّة الوطنيّة والنقديّة. فقد عرف المجتمع الفلسطينيّ حالاتٍ تاريخيّةً وراهنةً حادّةً في تعاونها مع الاستعمار من مثل فصائل السلام والمجنّدين في صفوف الجيش الصهيوني وروابط القرى والتنسيق الأمني. في المقابل، لا تبتعد كثيراً الممارسات السياسية للأحزاب السياسيّة العربية المشارِكة في البرلمان الصهيوني والعشائر وشريحة من رجال الأعمال والمقاولين عن تعريفنا الموضوعيّ للتعاون مع المحتلّين، والتي يجري معالجتها بحثيّاً في الكتابة ذات الطابع السوسيولوجي (العلوم الاجتماعية) بتغييب مسألة التعاون بمسمّاها التحليليّ وأطرها النظريّة تغييباً كليّاً، فتناقش قضايا الحقل السياسيّ الفلسطينيّ بالاستناد إلى مقولات علم الاجتماع السياسيّ التقليديّة عن النخبة والزبائنية و الكمبرادور والنيوليبرالية دون أن تؤطَّر ضمن مقولة التعاون.
وهناك اتجاهٌ متزايدٌ في الكتابة التاريخيّة والاجتماعيّة نحو إعطاء الفعل الإنسانيّ في التاريخ مكاناً وصوتاً في التحليل، وبالتحديد تحت الاستعمار، بحيث لا يظهر الناس كمادّةٍ سلبيّةٍ تشكّلها العمليات التاريخيّة ومنظومات السيطرة والهيمنة. قد يبدو في الأمر تناقض ولكنّ دراسة التعاون مع المحتلّين، مثلها مثل المقاومة، تعيد للفلسطيني موقعه كفاعلٍ في التاريخ (بصرف النظر عن الحكم القِيَميّ) ومساهمٍ في صنع مصيره. وقد يقول قائلٌ إنّه بالنظر إلى طبيعة الاستعمار الاستيطاني (الكولونيالي يا نيالي) في فلسطين، القائمة على محو الوجود الفلسطيني بالتهجير والإبادة، تصبح "التنازلات " التي يقدّمها الفلسطيني للبقاء على أرضه متفهَّمةً في سبيل بقائه، وإنْ كانت تتضمّن تعاوناً مع محتلّيه.
وقد يكون في هذا القول بعض المنطق السياسيّ، ولكنّ مجرّد البقاء شبيهٌ بـ "المقايضة الفاوستية"، بمعنى نبقى ونخسر روحنا ونُباد سياسيّاً إذا ما تحوّلت هذه المقولة (مقولة البقاء) إلى المنطق الأوحد للوجود، فيصير أهل البلاد كتلةً بشريّةً تُدار برزمةٍ من آليات المراقبة والسيطرة. ولأنّ عمليات السيطرة في الاستعمار الاستيطاني مستمرّةٌ ودائمة، فإنّ الركون إلى شرائح متعاوِنةٍ للتحكّم بالمجتمع "المحليّ" يجعل هذه العمليّة ذات تكلفةٍ زهيدةٍ اقتصادياً و"أخلاقيَاً"، تتمّ بأقلّ درجة من التدخل المباشر المكلف والمحرّض لردّات فعلٍ عكسيّة. باختصار، عبر التعاون يتمّ تحويل الصراع ما بين المستعمِر والمستعمَر إلى صراعٍ داخل مجتمع المستعمَرين، وعبر التعاون يدفع المجتمع تكلفة استعماره.
(8)
في نقد المعرفة الاستعماريّة عن التعاون : "هليل كوهين" نموذجاً
والحال هذه، وقد أبيْنا أن نخلع شوكنا بأيدينا، أدّى قصورنا في دراسة والوعي بـ "تواطئنا" إلى الوضع الذي أصبحنا فيه عالةً على المعرفة الاستعماريّة حول تاريخ التعاون مع المحتّلين، وبالتحديد على أبحاث "هليل كوهين". تسيّدت كتابات "كوهين" مرجعاً أساسيّاً، إذا لم نقُل وحيداً، حول نمط التعاون المباشر لبعض الفلسطينيّين مع الحركة الصهيونية في استعمار بلادهم، وصار بعض الباحثين الفلسطينيّين يتواصلون معه لسؤاله حول تعاون بعض الشخصيّات العربية مع الصهيونيّة أثناء كتابتهم لتاريخ بلداتهم وقراهم.
تُرجمت كتاباته "العرب الصالحون" و"جيش الظل" إلى العربيّة، دون مقدّماتٍ جادّةٍ تضع كتاباته في سياق المعرفة الاستعماريّة وسياسات الكتابة ضمنها، ودون نقاش مرجعيّاتها النظريّة وإطاره المفاهيميّ، فضلاً عن منهجيّته البحثيّة من ناحية طبيعة المصادر التي اعتمد عليها وهي في جلّها الوثائق الرسميّة للحركة الصهيونيّة وأجهزتها الاستخباريّة. مع التنويه إلى أنّ عصام زكي عراف يُشير في مقدّمة ترجمته لكتاب "العرب الصالحون" إلى تواصله مع من وردت أسماؤهم في الكتاب، أو من هم على معرفةٍ بما ذُكر فيه، لتصحيح أخطاء الكتاب. يُمكن تكثيف أطروحة "هليل كوهين" الأساسيّة في دراسته لظاهرة المتعاوِنين مع الحركة الصهيونية بالتالي: إنّ انهيار المجتمع الفلسطيني في عام النكبة 1948 كان نتيجة قصورٍ في نظامه القِيَميّ الوطنيّ المقاتِل بسبب تغلغل منظومةٍ قيميَةٍ منافسةٍ للمتعاوِنين في المجتمع الفلسطيني شلّته.
في الحقيقة، لسنا بحاجةٍ إلى تشغيل ماكينة تحليل خطابٍ معقّدةٍ لمعرفة المضمَر في مشروع "كوهين" المعرفيّ حول التعاون، سواءً بقصد أو بسبب ما تُمليه هويّته الاستعمارية المتوترة. ففي مقالٍ له حول التنسيق الأمني في ظلّ مصالحةٍ وطنيّةٍ محتمَلةٍ بين فتح وحماس، يقترح "كوهين" تسويةً للخلاف حول التنسيق الأمنيّ في هكذا حالةٍ إن تحققت، وهو إعادة تعريف معنى "الخيانة" بما يسمح بدرجةٍ من التعاون الأمنيّ مع "إسرائيل" دون التخلّي عن الثوابت الوطنيّة الأساسيّة. [2] يدور "كوهين" دورةً كاملةً ويعود إلى أطروحته حول العبث بالمنظومة القيميَة كمقدّمةٍ للانهيار المجتمعيّ، ولكن هذه المرّة بصفة المستشرق المستشار الاستعماريّ، لا بدّ أنّ "مناحيم ميلسون" قد أُعجب بالفتى!
بمثابة خاتمة: منظور التعاون مع المستعمِرين "وأزمة "المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ
كثيرةٌ هي الفعاليات التي اتّخذت عنوان "أزمة المشروع الوطني الفلسطيني"، بعيداً عن المسمّيات والأجندات في هذه الفعاليات، فإنّها تنطلق من فشل الأطر والبرامج وقصور القيادات في تحقيق الأهداف الوطنيّة في التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ، وبالتالي تخرج بحلول تقنيّةٍ من مثل المشاركة الشبابية والمصالحة وغيرها. باعتقادي، إنّ حال المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ بمعناه العام قد تجاوز بمراحل توصيف الفشل والقصور، وارتكس الى بنيةٍ سياسيّةٍ متعاونة مع المحتلّين أسمى أمانيها حالياً ليس حكم مجتمعها بالنيابة ،إنّما قبولها كشريكٍ في عملية الحكم هذه. وهنا بالتحديد، تفيدنا دراسة التعاون وأنظمته وتاريخه فلسطينيّاً وعالميّاً في تقديم منظورٍ يُساهم في تحويل الأزمة السياسيّة إلى أسئلةٍ معرفيّة؛ الأطر المفاهيميّة للنظر في الأزمة لتشريحها وفهمها وصولاً إلى الوعي بها على حقيقتها لتجاوزها.
****