تعيش "إسرائيل" منذ العام 1995 عندما أقدم متطرف يميني على قتل أحد أهم قادتها العسكريين وواحد من المساهمين الأساسيين الأوائل بإقامتها ورئيس وزراء دولتها السابق "إسحاق رابين"، أزمة متعددة الأوجه والجوانب فالمأزق الذي تعيشه هذه الدولة يتمثل بالمقام الأول بالتناقض الداخلي المضطرد مع كل جولة انتخابات جديدة فسرعة ظهور أجسام سياسية واختفائها أصبحت ظاهرة تميز الخارطة الحزبية في "إسرائيل"، ففي كل جولة انتخابية تطفو على السطح قائمة مرشحة للانتخابات سرعان ما تكسب ثقة الجمهور وما تلبث أن تختفي من الساحة بعد وقت قصير، ومع حدوث الانشقاق الجديد "لجدعون ساعر" عن حزب الليكود اليميني المتطرف تصبح هذه الظاهرة غير مقتصرة على أحزاب اليسار والوسط، فهذا الحزب الذي يعرف عنه تاريخيا التزامه الحديدي خلف رئيسه وقلما قام بإسقاط رئيسه بخلاف حزب العمل الذي أطاح بمعظم رؤسائه السابقين، بقي حزب الليكود مصطفا خلف قادته حتى وهم يقفون في المعارضة أو في قفص المحاكمة كما هي حالة "بنيامين نتنياهو".
هذا التطور الذي أحدثه الانشقاق الأخير وما تشهده الساحة السياسة والحزبية في "إسرائيل" من تفاعلات متسارعة يدعو للنظر أكثر في عمق الأزمة التي تعيشها هذه الدولة، فهل ما يحدث من تناحر غير مسبوق بين مختلف القوى الفاعلة على الساحة السياسية الإسرائيلية هي حالة مرضية لها ظروفها التي قد تنقضي بزوال بعض المسببات التي لها علاقة بالظرف الصحي أو الأمني والسياسي في المنطقة، أم أن هذه الأزمة لها أبعادها التاريخية والنفسية الوجودية، فـ"المجتمع الإسرائيلي" الذي يعاني مجموعة من التناقضات الدينية والإثنية والفكرية قد انتقل بعد سنوات طويلة من حالة الصراع الوجودي مع أعداء محتملين أو متخيلين إلى صراع وجودي أكثر شراسة وشدة وقد يكون مقدمة لمجموعة من الأعراض التي بدأت تظهر على هذا "المجتمع"، فالمجتمعات الكولانيالية عبر التاريخ تفككت واندثرت مع اندثار العدو الخارجي وذلك بسبب طبيعتها غير المنسجمة مع حقائق التاريخ والجغرافيا وهذا التجمع الغريب والذي لا تربطه أي أواصر عرقية أو ثقافية أو حتى دينية بدأت تظهر عيوبه التي حاول إخفاءها منذ عقود طويلة، فالتباينات الحاصلة داخل "المجتمع الإسرائيلي" وإن لم تحدث الانهيار حاليا إلا أنها تؤشر بما لا يدعو مجالا للشك لظهور بعض المقدمات التي تشير إلى أمراض مستعصية يعيشها هذا "المجتمع" فالقوة العسكرية أو التحالف الاستراتيجي مع القوى العظمى أو حتى الحصول على صكوك لسلام غير متكافئ أحدثته بعض الظروف القاهرة التي تعيشها بعض الدول العربية كلها لا تعطي هذا "المجتمع" الحصانة الكافية للاستمرار بذات النهج والأسلوب الذي يسير به منذ أكثر من سبعة عقود.
لذلك نعتقد بأن ما تواجهه "إسرائيل" في هذه اللحظة التاريخية هو أزمة وجودية حقيقية قد حذرت منها مجموعة من مراكز الأبحاث الاستراتيجية وأجهزة الأمن الإسرائيلي، فحجم هذه الدولة حتى وإن كانت إمكانياتها العسكرية والتكنولوجية كبيرة جدا إلا أنها غير قادرة ثقافيا وحضاريا على الصمود في وجه هذه التقلبات والاصطفافات العرقية والدينية المتنامية، وهذا تحديدا ما سيهدد وجودها وإمكانية استمرارها على المدى البعيد فقد كان مخطط الآباء الأوائل لها أن يحصل الاندماج والانصهار السريع وأن تتم إزالة كل الفوارق النفسية والثقافية بين فئات المجتمع وهذا ما لم يحصل بل على العكس تماما فهو يزداد اتساعا وتجذرا مع مرور الوقت.