شهد الواقع السياسي العربي مؤخراً انهياراً حاداً في سد رفض التطبيع مع "إسرائيل"، حيث دخل المغرب كرابع دولة عربية تعلن إقامة علاقات مع الاحتلال، خلال الشهور القليلة الماضية، لتنضم إلى الإمارات والبحرين والسودان.
وجاء هذا التطبيع بشكل مستفز للشارع العربي والفلسطيني حيث لم تكن هناك حروب مباشرة قريبة بين هذه الدول وبين الاحتلال، تبرر الرغبة في انهاء ويلات الحروب على رداءة هذا المنطق، كما أنه لم يأت حتى في سياق الحل السياسي والتفاوضي، التي تعكف عليه قيادة السلطة منذ أوسلو والذي تعامل مع التطبيع كورقة ضغط وامتياز تقدمها في حال توقيع اتفاق سلام شامل، مستندة إلى ما يعرف بمبادرة السلام العربية والتي تنص على تطبيع عربي وإسلامي مع "إسرائيل" في حال إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967.
والملاحظ في موجة التطبيع الأخيرة الدور المركزي للرئيس الامريكي دونالد ترامب، وحتى بعد ظهور إشارات خسارته الانتخابية، ويظهر بشكل غريب السلوك السياسي للبيت الأبيض، والذي يقفز فيه على محددات السياسية الخارجية لوقت طويل من بعض القضايا مثل: القضية الصحراوية في المغرب، والتي كانت تميل إلى الدعوة للحوار لحل القضية القديمة، وكذلك اشتراط تطبيع السودان من أجل رفع اسمه من "قائمة الارهاب"، رغم تغير النظام وما ارتبط بذلك من تغير في سياسات، وبالتي استغلال "قائمة الارهاب" للابتزاز السياسي وهو فعل غير مسبوق وعلى الاقل لم يكن معلناً بهذا الشكل، وتظهر الرعونة في سلوك الرئيس الأمريكي في تعريض مصالحها للخطر، من أجل تحقيق أهداف سياسية لدولة أخرى مها كانت شكل العلاقة التي تربطهم.
وفي تحليل التهافت العربي على التطبيع يظهر بالإضافة إلى الضغط الأمريكي المباشر, رغبة بعض الدول في تحقيق مصالح ذاتية تكون فيها القضية الفلسطينية ثمناً من السهل دفعه، فالسودان الذي يعاني من المشكلات الاقتصادية والعقوبات يرى في العلاقة مع "تل أبيب" مفتاح القبول الغربي ومحاولات تحسين الواقع، ويرى المغرب تأييد واشنطن لمواقفه ورقة قوية في الملف الصحراوي في وجه البوليساريو والجزائر، وأما الامارات والبحرين والتي بدا فيها التطبيع مستغرباً لعدم الحاجة فثمة اعتقاد على ما يبدو أن التحالف مع "إسرائيل" سيحمي هذه الدول وأنظمتها، من أي تغيير في الواقع العربي مثل ما حصل في موجة الربيع العربي التي ساهمت أبو ظبي بشكل رئيسي، في اجهاضها وتدخلت بشكل سافر في الشؤون العربية، وما نتج عن ذلك من قمع ودماء وانقسامات سياسية وحتى جغرافية.
وبالتالي تظهر دولة الاحتلال بدور الضمانة التي ستساعد بما عندها من تقدم عسكري وتكنلوجي، وبما لها من مكانة لدى واشنطن في حال تغيرت السياسات، ويسقط هذا المنطق الحالة الاقتصادية البائسة التي تعيشها الدول العربية التي سبقت بالتطبيع، مثل مصر والأردن، بالاضافة إلى عجز "إسرائيل" عن دعم حلفائها كما حدث في ايران ومصر مبارك.
وتبالغ "إسرائيل" بالاحتفاء بمظاهر التطبيع وتأثير ذلك عليها كدولة تعاني من محيط معاد، ورغم المبررات التي تساق لذلك تبقى الاهداف الشخصية لنتنياهو كرئيس وزراء يعاني من قضايا فساد هي الأوضح، ويظهر هنا كمن يفعل المستحيل ويعطي "إسرائيل" مبررات شرعية لوجودها وتقليل الأخطار التي تعيش فيها، وتغيب هنا عن الحكومة الاسرائيلية ومنظريها في الاعلام مآلات التطبيع السابقة مع دول في المنطقة، بالإضافة إلى مخاطر العلاقات المباشرة مع الحكومات الديكتاتورية خاصة في ظل حالة السيولة السياسية العربية وموجة التغيير والتي بدأت وغير المتوقع توقفها رغم النكسات.
وقد عايشت "تل أبيب" تجارب قديمة غير مشجعة، وكانت مثلاً في حالة تحالف استراتيجي مع إيران الشاه كأقوى شخصية في الخليح وملك احدى الدول الاقليمية المؤثرة، وقد دفع الكيان ثمن ذلك في اليوم الأول لسقوط النظام وإغلاق السفارة وتسليمها لمنظمة التحرير، بل إن النظام الإيراني الحالي يرى مواجهة اسرائيل من مبررات وجوده واستمراره، ويقدم الدعم الأكبر للمقاومة الفلسطينية، وهو النظام الوحيد الذي يعلن ذلك وفي كل مناسبة, والتجربة الأخرى المريرة كانت مع تركيا، والتي وإن لم تتطور كما حدث في طهران، ولكن ثبات الديمقراطية في أنقرة أفرز حزباً يرى الوقوف مع القضية الفلسطينية، من أهم سياساته ويواصل الدعم الانساني والاقتصادي للفلسطينيين، فيما قام بتبريد العلاقات الاستراتيجية التي ميزت العلاقة مع "تل أبيب" منذ اعلان قيام دولة الكيان.
وفي نفس السياق دفعت تل أبيب ثمناً بعد تمكن المصريين من إزاحة نظام مبارك وكانت السفارة الاسرائيلية هدفا مشروعا للمتظاهرين، وبالرغم من المرحلة الذهبية التي تعيشها العلاقات الاسرائيلية المصرية حالياً، ولكن ذلك يحمل المخاطرات بسبب طبيعة النظام غير الديمقراطية والخوف الدائم من موجة تغيير جديدة تطيح بسلطة الانقلاب العسكري هناك.
ويمكن أن تكون موجة التطبيع الأخيرة في صالح القضايا العربية، ففي المعركة التي تخوضها الشعوب العربية ضد الانظمة أضيف مبرر وطني وأخلاقي يدعم صف المطالبين بالتغيير الجذري والثورة ضد الحكومات العربية، ومرد ذلك حساسية القضية الفلسطينية بالنسبة للشعوب والعداء المتجذر للحركة الصهيونية، والذي تتغذيه الحروب وآلة الدمار التي تقوم بها اسرائيل ضد الفلسطينيين بشكل مستمر، ولا يظهر اشارات على امكانية تغيير ذلك السلوك.
وبالتالي فالتحالف مع "إسرائيل" سيؤدي بالضرورة إلى تسهيل معركة الثورات العربية، التي بدأت بفعل مرحلة الوعي بالحقوق ولن تتوقف وفق سيرورة تاريخية معروفة، وفي مرحلة تحقق ذلك سينتهي ملف العلاقة مع "إسرائيل"، بل سيكون هناك سياسة مغايرة معادية للاحتلال ومشاركة في معركة الشعب الفلسطيني نحو التحرير.