أثار المقال السابق "لماذا تفشل حوارات المصالحة" اهتمامًا كبيرًا، أكثر من العادة فيما يخص المقالات المتعلقة بالمصالحة. ومن ضمن الأسئلة التي أثارها "كيف يمكن إنجاز الوحدة". وهو مهم جدًا، ولكنه وحده لا يكفي فهو وصف الدّاء، فلا بد أيضًا من وصف الدواء.
قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تلخيص قصير للمقال السابق، وهو يقوم على أن هناك أسبابًا، فلسطينية وإسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية، وراء وقوع الانقسام وفشل الجهود والمبادرات الرامية إلى إنهائه، إلا أنّ مفتاح إنهائه بيد الفلسطينيين، وهم الذين يجب أن يبادروا ويقودوا مبادرات إنهاء الانقسام، فلن يقلع شوك الفلسطينيين غيرهم، لأن الوحدة تحقق مصلحة فلسطينية، فهي ضرورة وقانون الانتصار لأي شعب يعيش مرحلة تحرر وطني، وبحكم أن التهديدات والمخاطر وجودية وتهدد الجميع دون استثناء.
ورغم أن إسرائيل صانعة الانقسام والمستفيدة من استمراره وستقاوم محاولات انتهائه، كونه الدجاجة التي تبيض للاحتلال ذهبًا، إلا أنّ الصراع على المصالح، أي على السلطة والقيادة والقرار، هو بعد ذلك جذر الانقسام الأول.
تبدأ روشتة إنهاء الانقسام بضرورة الشروع في الحوار الوطني الشامل حول القضايا المحورية، وفي القلب منها البرنامج الوطني، الذي يشمل الهدف المركزي، والأهداف الفرعية التي يجب الكفاح لتحقيقها، وأشكال النضال والعمل السياسي والمقاوم لتحقيقها، وإذا تمّ الاتفاق على هذا الأمر فيسهل الاتفاق على الأمور الأخرى. فالاتفاق على البرنامج السياسي مفتاح بوابة الوحدة المغلق.
ولا بدّ أن يضمن الاتفاق المطلوب الموقف من اتفاق أوسلو، وكيفية التعامل مع التزاماته السياسية والاقتصادية والأمنية، والموقف من القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، والموقف من المفاوضات والمقاومة.
ما ميّز الحوارات والاتفاقيات السابقة أنها تجاهلت هذا الأمر ومرت عليه مرور الكرام، نظرًا للخلافات الجوهرية حوله، مع أنّ التجربة والمنطق السليم يشيران بأن لا وحدة من دون الاتفاق على البرنامج الوطني أولًا، وإنهاء هيمنة حركة فتح على السلطة والمنظمة، وسيطرة حركة حماس الانفرادية على قطاع غزة ثانيًا.
ولتوضيح أهمية هذه القضية المحورية، نشير إلى أن الوحدة لا يمكن أن تتحقق من دون الاتفاق على البرنامج الوطني، وإذا تحققت من دونه لن تصمد، وستنهار في ظل استمرار طرف في تبني برنامج المفاوضات كخيار وحيد أو رئيسي، ويؤمن بإمكانية التوصل إلى تسوية عادلة أو متوازنة أو يكتفي ببقاء السلطة على ما هي عليه (أي سلطة حكم ذاتي) إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وبالتالي لا يزال يتمسك بأوسلو والتزاماته. وإذا استمر الطرف الآخر في تبني برنامج المقاومة كخيار وحيد أو رئيسي، ولو من دون ممارسته، في ظل أن المقاومة محاصرة ومعطّلة، ويرفض أوسلو ويطالب بإلغاء الالتزامات المترتبة عليه.
إذا أردنا الحديث بصراحة، فإن برنامجي المقاومة والمفاوضات يسيران على خطين متوازيين ولا يمكن أن يلتقيا.
ولكن هذا نصف الحقيقة، أما النصف الآخر، فهو أن الأمر في الساحة الفلسطينية لم يعد على هذا النحو، فالبرنامج الأول (المفاوضات) فشل ووصل إلى طريق مسدود، والبرنامج الثاني معطّل، وأن مختلف الأطراف الفلسطينية، وإن بدرجات متفاوتة، تدرك ذلك، وتبحث عن برنامج ثالث جديد يجمع ما بين المفاوضات والعمل السياسي والديبلوماسي، والمقاومة، ويركز، كما تم التوافق عليه، على المقاومة الشعبية من دون التخلي عن المقاومة المسلحة.
ومن يشكك بهذا عليه أن يعود إلى وثيقة الوفاق الوطني في العام 2006، ومختلف الوثائق الوطنية المتفق عليها من اتفاق القاهرة في العام 2011، وإلى تفاهمات اجتماع الأمناء العامين، في أيلول الماضي، ومن بعده اجتماع حركتي فتح وحماس في إسطنبول في الشهر ذاته، التي تضمنت ما ذهبت إليه، بما في ذلك التأكيد على أن برنامج إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 برنامج الحد الأدنى المشترك، وتفويض الرئيس محمود عباس واللجنة التنفيذية للمنظمة بالتفاوض باسم جميع الفلسطينيين (الرئيس لا يخفي استمرار رهانه على المفاوضات، ومبادرته الراهنة بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي أكبر دليل على ما سبق ولم يتم الاعتراض عليه)، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بجميع الأشكال، مع اعتماد المقاومة الشعبية كبرنامج متوافق عليه في هذه المرحلة، وعلى أساس أن القرار الوطني بخصوص القضايا المهمة، بما فيها المقاومة، يتخذ وطنيًا، وضمن المؤسسات الوطنية الموحدة.
أي هناك كما يبدو في العلن على الأقل تقاطع كبير وتقارب متزايد في البرنامج السياسي هذا من جهة، وشروع في التعايش مع الانقسام كما ظهر بوضوح من خلال الاتفاق الأخير على إجراء الانتخابات قبل إنهاء الانقسام، والموافقة المبدئية على خوض الانتخابات ضمن قائمة مشتركة، والتوافق على أن يكون الرئيس محمود عباس مرشحًا توافقيًا في الانتخابات الرئاسية، ما يدل على أن الصراع الرئيس على المصالح والسلطة والقيادة والقرار، وهذا لا يمكن حله إلا بالتوافق على محاصصة ثنائية تضمن مصالح الطرفين، أو على أسس الشراكة الوطنية وفق الديمقراطية التوافقية التي تضمن أوزان كل الأطراف وحقوقها ومصالحها، في إطار من الوحدة والعمل المشترك على القواسم المشتركة.
وما يحول دون نجاح المحاصصة المتفق عليها أن عدم الثقة عميق الجذور بين الطرفين، فضلًا عن وجود شك كبير بينهما لتنفيذ ما يتفق عليه، وما يحول أيضًا دون نجاح الشراكة أن التطورات المحلية والعربية والإقليمية والدولية، خصوصًا التطبيع العربي وتحالف بعض الأطراف مع إسرائيل، تسير في الاتجاه المعاكس، ومعها العوامل الخارجية الأخرى التي تضع عوائق ضخمة، أهمها أن الاحتلال ضد إنهاء الانقسام.
كما يساهم في منع الوحدة التنازع بين المحاور المختلفة، وبين الوطني والقومي والإسلامي والأممي، وضرورة موافقة "حماس" على شروط اللجنة الرباعية حتى تُقبل كشريك في إطار السلطة والمنظمة، ويُعدّ هذا الأمر لا سيّما بعد وصول مسار أوسلو إلى الكارثة التي نعيشها بمنزلة انتحار سياسي للحركة.
ما سبق يوضح صعوبة إنهاء الانقسام، غير أن إنجاز الوحدة ليس مستحيلًا، وأن المخرج الوحيد من هذه الدوامة يكمن في ضرورة تبلور ضغط سياسي وجماهيري، داخلي وخارجي، أكبر من الضغوط الممارسة من جماعات مصالح الانقسام المستقوية بالأطراف الخارجية. ويمكن لهذا الضغط أن يتوفر إذا ولد تيار سياسي وطني عابر للتنظيمات والتجمّعات، أساسه العمل على إنقاذ القضية والشعب والأرض والمؤسسات.
ومثل هذا التيار له فرصة بأن يرى النور، لأن أساسه الموضوعي موجود كما يظهر في مأزق طرفي الانقسام وعجزهما عن تقديم حل للكارثة التي نعيشها والمرشحة للتفاقم، وإن بصورة وصفقة أخرى بعد سقوط ترامب ونجاح بايدن.
وكما يظهر في أن مصالح الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني الوطنية والديمقراطية تتمثل في إنهاء الانقسام وتجسيد الوحدة، وفي أن المطالبة والضغوط لإنهاء الانقسام لم تتوقف، ولكنها بقيت مبعثرة وموسمية، ويجب أن توضع في سياق العمل لإجراء تغيير شامل في الفكر والممارسة والمؤسسة الوطنية، وأعتقد أن التراكم ضروري لتحويلها إلى قوة لا يمكن تجاهلها، وقادرة على فرض إرادة ومصالح الشعب الفلسطيني على إرادة ومصالح جماعات مصالح الانقسام.