لا تعني عودة محمود عباس إلى التنسيق الأمني، والعودة عن كل الالتزامات التي سبق وأعلن عدم الالتزام بها، غير العودة إلى الانقسام الفلسطيني.
على أن الانقسام، في هذه المرة، لن يأخذ شكل انقسام بين "حماس" و"فتح"، أو بين سلطة رام الله وقاعدة المقاومة في قطاع غزة، لأنه انقسام أعلنه محمود عباس بتحدٍ سافر لكل الأمناء العامين في لقاء بيروت ـ رام الله في 3 أيلول/ سبتمبر 2020، طبعاً باستثناء الأمناء العامين الذين حوله في رام الله. أي انقسام يشمل "حماس" و"الجهاد" والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والفصائل السبع في دمشق.
كيف يمكن أن تفسَّر العودة عن كل ما كان سبباً لالتقاء الأمناء العامين، وفي مقدمها وقف التنسيق الأمني. وإعلان عدم الالتزام بكل ما قام من اتفاقات مع الكيان الصهيوني، ابتداء من اتفاق أوسلو، وجر الحبل إلى تداعياته؟
لا شك هذا "الانقلاب" الذي قام به الرئيس محمود عباس (ولا تعني شيئاً كلمة الرئيس هنا)، كان متوقعاً من الكثيرين، وقلّ من صدق، وإن كارهاً، أن مصالحة ستتم، وأن سعياً لتصعيد المقاومة ضد الاحتلال والاستيطان، أو نصرة للقدس سوف ينطلق. ولكن الكثيرين لم يتوقعوا أن يحدث هذا "الانقلاب" بهذه السرعة، قبل أن يجف الحبر الذي أعلن فيه وقف التنسيق الأمني، أو الإعلان عن عدم الالتزام بكل الاتفاقيات التي عقدت مع الكيان الصهيوني.
وكيف يمكن توقع الانقلاب بهذه السرعة ولم يجدّ جديد، أو يلوح بالأفق جديد؟ فما قدم من تفسير اعتمد على رسالة لا تعني شيئاً، ولا علاقة لها بموضوع العودة للتنسيق الأمني، أو الرجوع إلى الالتزامات التي أُعلن الحِلّ منها. إن التفسير الذي قدمه حسين الشيخ رسالة، وأي رسالة، كتبها إليه الميجور كميل أبو ركن منسق الأنشطة الحكومية في المناطق، قال فيها: "إن إسرائيل أقرت سابقاً بأن الاتفاقات الثنائية الإسرائيلية ـ الفلسطينية ما زالت تشكل الإطار القانوني المعمول به، والذي يحكم سلوك الفريقين، فيما يتعلق بالقضايا المالية وغيرها".
هذا يعني أن الكيان الصهيوني لم يتنصل مما أقرّ سابقاً، وفعل سابقاً، ولهذا يتابع الميجور "استمرت إسرائيل في تحصيل الضرائب لصالح السلطة الفلسطينية، لسوء الحظ".. (أنتم الذين قررتم عدم تسلم الضرائب التي تم تحصيلها).
كل هذا يعني أن لا شيء جديداً، حصل من جانب الكيان الصهيوني لا تراجع عن موقف، أو إقرار جديد بموقف، وإذا بحسين الشيخ يصرخ مفتخراً "إن هذه هي المرة الأولى تعلن "إسرائيل"، برسالة مكتوبة وموثقة، الالتزام بالاتفاقيات الموقعة بيننا وبين "إسرائيل".
تصوروا أن هذه الرسالة تعني من الآن فصاعداً أن الكيان الصهيوني سيلتزم بالاتفاقيات فهي أقوى "قانونياً" و"دولياً" من التوقيع الرسمي نفسه على تلك الاتفاقيات، وأقوى من تجربة ربع قرن مع حكومة الكيان الصهيوني منذ اتفاق أوسلو إلى آخر اتفاق في عدم التزامها بأي اتفاق عدا ما أخذته منه من تنازلات. الآن وقعت بالفخ الذي نصبته رسالة حسين الشيخ في 7 تشرين أول/ أكتوبر من خلال الرد عليها في رسالة الميجور المؤرخة في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. فلم يعد بمقدورها ألاّ تلتزم بالاتفاقات!
يا ليت حسين الشيخ ينشر رسالته، المؤرخة في 7 تشرين أول/ أكتوبر والتي أوقعت بالكيان الصهيوني في رده عليها، لتكون درساً، ولتصبح نموذجاً يحتذى، لكن بالتأكيد لن ينشرها أبداً. حقاً لماذا لم ينشرها؟
وبناء عليه قرر محمود عباس أن تعود السلطة إلى التنسيق الأمني والالتزام بالاتفاقيات.
هل هذا معقول، وبأي منطق يمكن أن يكون معقولاً؟
حقاً إنه استهتار بالشعب الفلسطيني أولاً، واستهتار بفتح إذا بقي هنالك فتح، ثانياً، وثالثاً هو تحدٍ لأمناء الفصائل الذين عضوا على جرحهم، وشاركوا في لقاء الأمناء العامين برئاسة محمود عباس.
هذا التراجع، هذا التخاذل، المجاني، والذي لا معنى له كان يمكن أن يقدَّم لجو بايدن تحت حجة حدوث متغيّر ما بالتخلص من دونالد ترامب؛ حتى يجيء رفضنا سياسياً، ويتعامل بجدية، في الاعتراض، والذهاب إلى الانقسام. أما أن يحدث هذا الانقلاب بالحجة التي قدمها حسين الشيخ، ويفرض انقساماً جديداً بسبب القرار الذي رتب عليها، فإننا أمام كارثة جديدة. وأمام مهزلة مبكية مضحكة غير لائقة.
وبكلمة للأخوة الأمناء العامين: الجواب أن تعلنوا موقفاً موحداً، وموقعّاً منكم جميعاً. وعندئذ ترون ردة الفعل. وذلك، في الأقل، حتى لا يظن الرئيس محمود عباس أنكم لا تجتمعون إلاً تحت رئاسته. وأنكم لا تتوافقون، أو تتحدون إلاّ تحت رئاسته. فهو الذي أخل بما توافقتم عليه، وهو الذي عاد إلى الانقسام معكم جميعاً بعودته إلى التنسيق الأمني ونهج اتفاق أوسلو.