منذ توقيع الإمارات اتفاق التطبيع مع الاحتلال الاستعماري في فلسطين، بدا واضحا أنه لن يكون تطبيعا عاديا كالذي تم بين دول عربية أخرى عقدت سابقا معاهدات سلام مع الاحتلال، وخصوصا مصر والأردن.
كان الملمح الأول للاختلاف في "تطبيع" الإمارات هو أن الدولة أرادته تطبيعا شعبيا لا سياسيا فقط، ولذلك فقد رعت اتفاقات تجارية بين شركات إماراتية خاصة "نظريا" مع شركات في الكيان المحتل، وشجعت مظاهر اتسمت بالخفة والصناعة الركيكة لمظاهر احتفاء "شعبية" بالتطبيع، وصنعت جوا جعل أنصاف إعلاميين وأرباع فنانين يقدمون إنتاجا يوصف زورا بأنه إعلام أو فن للاحتفاء بالاتفاق، وإظهار أنه اتفاق شعبي وليس مجرد علاقة بين دول.
وإذا كانت هذه المظاهر المغرقة بالسفه قد تراجعت بعد ليلة "العرس" الآثم، فقد بدأت تظهر ملامح الجزء الأخطر من اتفاق التطبيع، وهو ما يمكن تسميته بتبني وترويج الرواية الصهيونية للصراع، ولكن هذه المرة عبر مؤسسات وشخصيات تتحدث بلغة عربية، وروح عبرية خالصة!
نذكر في هذا الإطار اللقاء الذي عقده قبل أيام معهد "دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" مع سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة. وإذا تجاوزنا "الشكل" في هذا اللقاء الذي ظهر فيه سفير عربي بمركز أمني صهيوني ليتحدث عن قضايا وخلافات عربية عربية، فإن أخطر ما قاله العتيبة في هذا اللقاء هو الترويج لفكرة أن الشباب العربي لم يعد يكترث بقضية فلسطين.
لم يتحدث العتيبة هنا منطلقا من استطلاعات رأي محترمة، ولا بناء على دراسات مسحية يعتد بها، بل أطلق رأيه الخاص باعتباره حقيقة، مروجا بذلك رواية صهيونية يحاول الاحتلال نشرها في الغرب والإقليم وتقوم على نفي علاقة الصراع العربي الصهيوني بمشكلات المنطقة. فقد عملت دبلوماسية وإعلام الاحتلال سنوات طويلة لترويج هذه الفكرة في الولايات المتحدة بهدف إقناع صناع القرار في واشنطن بعدم أهمية الضغط لقيام مسار سياسي قد يجبر الاحتلال على تقديم ما يعتبرها "تنازلات"، مع أنها أقل من الحد الأدنى الذي يقبله حتى عرابو المفاوضات من الفلسطينيين أنفسهم.
ومن جهة أخرى، روج الاحتلال هذه الفكرة في المنطقة العربية أولا لتحقيق أهداف سياسية داخلية، وثانيا لإقناع حكومات الدول العربية الاستبدادية بإعلان علاقات رسمية مع الاحتلال دون الخوف من دفع الثمن شعبيا بحجة أن الشاب العربي لم يعد يهتم بفلسطين.
هكذا ببساطة يروج سفير الإمارات للرواية الصهيونية في منبر صهيوني، وكان بإمكانه العودة لدراسات مرموقة في الغرب تؤكد أن الاحتلال لا يزال العدو الأول للعرب على الرغم من كل ما نفذ على المستوى الرسمي من بعض الدول للترويج لأعداء جدد مثل إيران، التي ساهمت هي الأخرى بسياساتها في المنطقة باكتساب عداء قطاع عريض من الشعوب العربية.
بعد أيام من حديث العتيبة الحميم مع المركز الأمني الصهيوني، نشرت شركة طيران الاتحاد الإماراتية إعلانا ترويجيا للتطبيع تبنت فيه رواية الصهيونية حول القدس، واستخدمت مسمى "الهيكل الثاني" المزعوم بدلا من المسجد الأقصى. حذفت الشركة الإعلان بعد ضجة كبيرة واحتجاجات شنها النشطاء العرب على موقع تويتر، ولكن هذا لا يغير من حقيقة تبني الشركة للرواية الصهيونية في الصراع بين الاحتلال والفلسطينيين والعرب والمسلمين عموما.
لا يمكن النظر لتصريحات العتيبة وإعلان "الاتحاد" باعتبارها أحداثا معزولة أو حتى أنها "أخطاء غير مقصودة"، إذ أنها تأتي في سياق مسار مدروس بدأ قبل توقيع اتفاق التطبيع بسنوات، حيث اشتغل الإعلام الرسمي والموجه و"الذباب الإلكتروني" التابع للإمارات والسعودية على ترويج روايات صهيونية، وأحيانا روايات يتبناها عتاة الصهاينة فقط حول الصراع، مثل اتهام الفلسطينيين ببيع أرضهم (بدلا من القول أن العصابات الصهيونية احتلت هذه الأراضي)، واتهام الشعب الفلسطيني بالارتزاق وبيع قضيته (وهي رواية يروجها الصهاينة للطعن في مشروعية المقاومة الفلسطينية للاحتلال)، بالإضافة لتحميل الشعب الفلسطيني مسؤولية "تضييع الفرص" التي كانت يمكن أن تقدم حلا للصراع (بدلا من توضيح المسؤول الحقيقي وهو الاحتلال الذي رفض حلولا لا ترضي أصلا غالبية الشعب الفلسطيني).
تسعى هذه المقاربة التي تستخدم منذ سنوات ولا تزال مستمرة لتبرئة الاحتلال من جريمته الأولى وهي الاحتلال الاستعماري لأراضي شعب وتهجيره رغما عنه، وكذلك لتبرئته من جريمة استمرار الاحتلال ورفض أي حلول قد تمثل حدا أدنى على الأقل لقيادة فلسطينية وإن كانت لا تمثل أقل طموحات وحقوق الشعب الفلسطيني.
التطبيع مع الاحتلال الاستعماري لفلسطين هو جريمة إنسانية بغض النظر عن نوعه وتفاصيله، ولكنه في حالة الإمارات ليس مجرد تطبيع عادي، بل هو ترجمة عربية ركيكة لرواية صهيونية صار شباب العالم الغربي، للمفارقة، لا يصدقها، بينما تحاول أبو ظبي فرضها على شباب العرب!!