ما لم تحدث مفاجأة خارج الحسابات، فسنكون خلال السنوات الأربع القادمة، مع العجوز جو بايدن، أو "جو النعسان"، بتعبير ترامب.
ولا يعرف بالطبع ما إذا كان سيحصل على ولاية ثانية، أم سيكون حظه مثل خلفه؛ مجرد ولاية واحدة، أم تحدث تطورات أخرى مفاجئة ذات صلة برفض أنصار ترامب لنتائج الانتخابات، ما سيترك آثارا كبيرة على تماسك هذه الإمبراطورية التي تسيَّدت المشهد الدولي لعقود طويلة، وإن كان الجزء الأهم منها (الأحادية القطبية) هو ذلك الممتد من ولاية كلينتون الأولى، وحتى نهاية ولاية بوش (الابن) الأولى.
سلّم كلينتون بوش (الابن) مفاتيح البيت الأبيض، وأمريكا في وضع لم تعرفه إمبراطورية في التاريخ البشري، من حيث تكامل عناصر القوة والنفوذ، لكن غرور القوة والمغامرات الحمقاء، ما لبثت أن فعلت فعلها، فقد أقنعه "المحافظون الجدد"، ومحرِّكوهم الصهاينة أن عليه لكي يضمن سيطرة أمريكا على القرن الجديد أن يذهب إلى العراق وأفغانستان، فيسيطر على الشرق الأوسط وصولا إلى بحر قزوين وثرواته.
والحال أن عين "المحافظين الجدد" كانت مصوّبة نحو تصفية القضية الفلسطينية وهيمنة كيانهم على المنطقة، وليس دافعهم الحرص على مصالح أمريكا. وجاء ذلك بعد فشل مشروعهم لـ"الشرق الأوسط" الجديد بعد اتفاق أوسلو.
ورّطوا بوش في مستنقعات العراق وأفغانستان، بعد هجمات سبتمبر، وكل ذلك بدعوى مطاردة الإرهاب، فبدأ مسلسل التراجع؛ متزامنا مع بداية عزلة دولية إثر قرار غزو العراق دون مرجعية دولية.
في الأثناء، كانت الصين تصعد بهدوء ودون ضجيج، مستغلة انشغال بوش بمنطقتنا، وكذلك حال روسيا مع بوتين، فيما كان على بوش أن ينتبه إلى أن أولويته هي وقف صعود الصين وروسيا، وليس مطاردة "الأشباح" في الشرق الأوسط.
أدركت الدولة العميقة في الولايات المتحدة ما فعله بوش، وتبعاته بطبيعة الحال، فدفعت بأوباما إلى الواجهة كي توقف العزلة الدولية، ومعها التراجع، وتمنح أمريكا وجهها المضيء كإمبراطورية من لون آخر؛ يصل فيها نجل مهاجر أسود إلى سدة الرئاسة.
حاول الرجل ذلك، لكن نجاحه كان محدودا، لا سيما أن الخروج من مستنقعات بوش، لم يكن أمرا سهلا دون تبعات كبيرة، وبذلك أنهى أوباما ولايتيه ولم يخرج من العراق وأفغانستان، فيما كانت الصين وروسيا تصعدان أكثر فأكثر.
أرادت الدولة العميقة أن تكرر التجربة، بدفع أول امرأة إلى البيت الأبيض، فكانت المفاجأة التي لم يحسب أحد حسابها.
كائن لا صلة له بالسياسة، ولم يمر بأي من مراحل التصفية التقليدية في المؤسسة السياسية أو العسكرية، نرجسي متهوّر تعرفه حلبات المصارعة وساحات "البزنس" أكثر من ميادين السياسة.
تعايشت معه الدولة العميقة بصعوبة بالغة، ولجمته في محطات عديدة، لكن عزلة أمريكا الدولية تعززت بسبب ممارساته، بخاصة أن أجندته الصهيونية ما لبثت أن حكمت سلوكه الخارجي، فيما كانت قدرته على تحدي الصين محدودة، رغم المحاولة الحثيثة، وبقيت سياساته حيال روسيا تثير الأسئلة، وهي التي استفادت أكثر من أي أحد آخر من وجوده في البيت الأبيض.
هنا ألقت الدولة العميقة بثقلها من جديد من أجل تنحيته، رغم فشلها في توفير منافس ديمقراطي قوي، ولكن هذه المرة بصيغة جديدة بعد أول أسود، وأول امرأة، أعني عبر ثاني كاثوليكي بعد كينيدي الذي انتهى مقتولا.
وجاءت فكرة التصويت عبر البريد كمسار إنقاذ، لأن الكتلة التي تنحاز لبايدن؛ عادة ما تكون الأقل حماسا للتصويت المباشر، خلافا لمؤيدي ترامب من البيض الأكثر ميلا للعنصرية، فيما كان "كورونا" قد تكفل بضرب إنجازه الأساس، ممثلا في ازدهار الوضع الاقتصادي.
وهكذا نجحت في إنقاذ الموقف بصعوبة بالغة.
ماذا بعد؟
هذا السؤال لأمريكا ولنا في آن.
ماذا سيفعل بايدن لأمريكا، وماذا سيفعل لنا في هذه المنطقة تحديدا؟
بالنسبة لأمريكا، يمكن القول إن بايدن سيتسلم إمبراطورية في حالة انقسام داخلي غير مسبوق (إذا لم يحدث المزيد، كما أشرنا ابتداء)، في ذات الوقت الذي سيتسلمها ومنافسوها الكبار قد صعدوا بقوة، ولم يعد بالإمكان حصارهم ولجمهم، بخاصة الصين، ما يعني أن عليه أن يعيد الوحدة لمجتمعه المنقسم، ويواجه التحدي الخارجي الصعب، وهما مهمتان لن يتمكن من النجاح فيهما، مهما كانت قوته، فكيف وهو شخصية ضعيفة إلى حد كبير؟! ودعك هنا من حقيقة أن قوة التحدي الخارجي مع هشاشة الوضع الداخلي يمثلان عنوان التراجع في تاريخ الدول.
بالنسبة لنا في هذه المنطقة، يمكن القول إن من الصعب النظر إليها خارج سياق الوضع الدولي الذي سيدخل حالة صراع أكثر قوة.
وإذا ما فرض هذا الصراع حالة استقطاب قوية، فسيكون وضع المنطقة جزءا من هذا الاستقطاب، وسيحاول كل طرف كسب محاوره إلى جانبه.
والمصيبة التي نحن بصددها هنا هي أن هذه المنطقة تنزف بقوة بين محاورها الثلاث (إيران وتركيا ومحور الثورة المضادة)، وذلك بغياب الثقل المصري كقيادة عربية، أو تبعيته للمحور الأخير، وتراجعه وضعفه أمام المشروع الصهيوني والإيراني في آن، وعلاقته المتوترة مع تركيا.
إذا بقي النزيف المذكور قائما، فسيستفيد من ذلك الكيان الصهيوني، وستكون مهمته في تصفية القضية الفلسطينية أكثر سهولة، بخاصة أن العودة لسياسة التصفية التدريجية مع بايدن، ستكون أفضل من غطرسة ترامب وما تنطوي عليه من فضح لباعة أوهام الحلول، ودفع نحو خيار المقاومة، لكن توصل محاور المنطقة إلى تفاهمات معينة توقف النزيف المشترك، سيجعل وضع الكيان أسوأ، بخاصة إذا انفجر الوضع في الضفة الغربية، مع ضرورة التذكير بما قلناه في مقال سابق بشأن العلاقة القوي لبايدن بالكيان الصهيوني، والتزامه بأمنه وتفوقه.
كل ذلك سيعتمد كما ذكرنا قبل قليل، على نتائج الاستقطاب الدولي ومخرجاته، وما إذا كان سيصل حدود الصدام المباشر، أم مجرد الحرب الباردة، مع أن الأخيرة قد تكون مفيدة أيضا، إذا أدير الصراع الإقليمي بشكل أفضل، بعد قناعة أطرافه بلا جدوى استمرار النزيف.
الخلاصة أنها مرحلة انتقال تاريخية كبرى؛ على مستوى العالم وعلى مستوى الإقليم، وليس من الإفراط في التفاؤل القول إن فرص هذه الأمة في الخروج بمكاسب معقولة، ستكون جيدة إلى حد كبير، لكن ذلك سيعتمد على طريقتها في إدارة الصراع فيما بين محاورها المختلفة، بجانب المناورة مع الكبار واستغلال تناقضاتهم.
وإذا ما ضعفت أمريكا أكثر، حتى لا نتحدث عن ملامح تفكك، بجانب ضعف الغرب اللافت، فإن الوضع الدولي الذي مثّل سياج الحماية للكيان سيتهاوى أيضا، ولن يكون الأخير عنصرا يعزز من تناقضات المنطقة ومحاورها.