الرابعة فجرا، منتصف حزيران/ يونيو 2006، لجأ المقاومين وليد الشحروري ومحمود الزكاري، للتحصن في المقبرة الشرقية بمدينة نابلس، بعد أن تعذر عليهما العودة إلى البلدة القديمة، التي كانت محاصرة بالدبابات والآليات العسكرية.
حينها ظنا أن انسحاب الاحتلال من المدينة بات قريبا، فآثرا الاحتماء بالمقبرة مؤقتا، وبعد وقت قصير، صارت النسوة القاطنات في البنايات المحيطة تنادي عليهما، تدعوهما للاختباء، دون أن يفهما ما يحدث، ثم استرق محمود النظر من خلف سور المقبرة، ليجد أنها محاصرة بالدبابات من نواحيها كافة.
في الوضع الطبيعي، الموقف مخيف، لكن وليد ومحمود كانا على قدر من الشجاعة، جعلتهما يضحكان عندما قال محمود لوليد "إذا استشهدنا مارح يضطروا يشيعونا إحنا في المقبرة جاهزين".
في هذه اللحظات، حاولا الهرب من الجهة الأخرى، لكن كل منافذ المقبرة محاصرة، وحركتهما مكنت الجنود من رصدهما، حيث باشروا بإطلاق النار عليهما، ليبدأ معها الاشتباك المسلح الذي استمر من الرابعة فجرا ولغاية الثانية عشرة ليلا من اليوم الذي يليه، وتبقى هذه المعركة مطبوعة في ذاكرة الناس للآن.
كمية الرصاص كبيرة التي أطلقت تجاههما جعلت وليد يظن أنه استشهد، شعر بالغثيان، وصار يتحسس مكان الرصاص في جسده، ثم أغمض عينيه وقال لصديقة محمود "أنا بستنى حاليا روحي تطلع"، لكن بعد برهة فتحهما ليجد أنه مازال على قيد الحياة.
زحف محمود ناحية السور مرة اخرى ليتفقد الوضع خارج المقبرة وطلب من وليد البقاء معه عبر الهاتف المحمول ليطلعه على التفاصيل، ولم يكد يصل حتى مزقت جسده قذيفة الاحتلال، وكانت أخر كلمة قالها لوليد "أأنا تصاوبت" ثم قطع الاتصال، حاول وليد التواصل مع صديقه مرة أخرى، لكنه لم يجب، حينها ظن أن محمود سلّم نفسه.
استمر إطلاق الرصاص والقذائف صوب وليد، ثم رن هاتفه المحمول، كان ضابط في جيش الاحتلال قال له: "وليد شو بتعمل، وين إنت" أجابه: "أنا على سطح منزلي"، جن جنون الضابط وقال له: "قتلنا صاحبك معك 5 دقائق تسلّم حالك، والله لأقتلك"، رد وليد "أنا هربت.. دور علي"، لكن وليد كان قد اتخذ قرارا بأنه لن يسلم نفسه مهما كان الثمن.
أغلق وليد الذي لم يتجاوز عمره في ذلك الوقت (18 عاما) هاتفه، حتى لا يتصل به الضابط مرة أخرى، وما لبث أن عادت القذائف والرصاص تنهال عليه من كل ناحيه، ما دفعه للاستلقاء بين أربعة قبور دون حراك "كان الرصاص يضرب بشواهد القبور وتتناثر الحجارة على جسده.
كما ألقت طائرات الأباتشي القنابل الدخانية، والغاز المسيل للدموع تجاهه، في تلك اللحظات شعر وليد أنه يختنق، فطمر رأسه بالتراب وتنفس منه، كما استعانوا بالكلاب البوليسية، و"الربوت" وفشلوا في اعتقاله، ثم اقتحموا المقبرة وباشروا بالبحث عنه، وكان يسمع دبيب أقدامهم في محيط القبور، لكن دون جدوى.
الطقس الحار والعطش الشديد دفعا وليد لمسح الندى بيده عن القبور في محاولة يسيرة للارتواء، وكان كلما شعر باليأس والتعب يستمد المعنويات من التكبيرات التي يطلقها الناس من البنايات المحيطة، والتي شعر معها أنه ليس وحيدا.
ظن جنود الاحتلال أن وليد استشهد، وسمحوا للطواقم الطبية والاغاثية بالدخول والبحث عنه في المقبرة، لكنهم جدوا جثمان محمود إلى جانب السور، حيث سمعهم وليد المختبئ بين القبور، وهم ينقلوه نحو سيارة الإسعاف، وعراكهم مع جنود الاحتلال الذين حاولوا اختطاف جثمانه، حينها فقط عرف أن محمود استشهد، لم يبك كان فقط مصدوما.
كل محاولات الاحتلال بالضغط على وليد لتسليم نفسه باءت بالفشل، حتى عندما أحضروا له والدته، وأجبروها على مناداته عبر مكبرات الصوت "وليد يما إذا إنت عايش اطلع سلم حالك"، رغم حزنه لسماع صوتها لكن لم يجد ذلك نفعا، ما دفعهم لتهديده بقصف المقبرة بطائرات "إف 16".
دخلت الطواقم الطبية للبحث عن وليد مرة أخرى، وصاروا ينادون عليه، ويخبرونه بأنها ستكون كارثة إنسانية إذا نفذ الاحتلال تهديده بقصف المقبرة، في وقت كان فيه وليد جائعا وعطشانا ومنهكا وحزينا على محمود، فنادى على الطواقم وأخبرهم أنه يريد تسليم نفسه حفاظا على حرمة الأموات.
نهض وليد الشحروري من بين القبور بصعوبة بالغة، وما إن استقام، حتى وجد جسده مضاء بـ "ليزر" البنادق الذي وجهه قناصو جيش الاحتلال المنتشرون على أسطح البنايات العالية المطلة على المقبرة نحوه.
صار وليد يتكئ على القبور لحين استطاع الوصول إلى باب المقبرة، وصرخ فيه الجنود من داخل آلياتهم ودباباتهم عبر مكبرات الصوت "ارفع ثيابك واستدر"، في تلك اللحظة كان وليد كمن يستفيق من التخدير، وهم بالهرب لكن جميع منافذ المقبرة مغلقة، وماهي الا دقائق معدودة حتى انقض عليه الجنود، واعتقلوه، وخضع لتحقيق قاس، استمر 37 يوما، قبل ان يقضي حكما بالسجن 9 أعوام ويفرج عنه عام 2015.
كان أول ما قاله له ضباط جيش الاحتلال عندما رآه "لماذا لم تمت.. كان يجب أن تموت".