نابلس- خاص قدس الإخبارية: قبل بزوغ الشمس؛ حضرت نجوى دويكات أغراض زوجها اللازمة للعمل، واحتسيا كأس "الشاي" وتناول إفطارًا خفيفًا، تعدد له على أصابعها توجيهات عليه الالتزام بها غير آبهة للعمر الذي ترك أثره على شعره الأبيض: "دير بالك على حالك.. تغطى منيح!"، علت ملامحه ابتسامة برزت منها ضحكة طويلة، ما لبث أن وضع كأس الشاي على الطاولة وابتلع ما علق في حلقه من شدة الضحك، معلقًا: "شايفاني ولد صغير؟ تنسيش إنّي كبرت"، وكان خليل دويكات يغيب عادة أسبوعا عن البيت للعمل في الداخل المحتل، لكن هذا اليوم ذهب ولم يعد فقد اعتقلته قوات الاحتلال قبل شهرين.
في قرية روجيب (قرب مدينة نابلس شمال الضفة) فجر الاثنين الماضي هناك حُلم هُدم، على خلفية اتهام الاحتلال للأسير خليل دويكات بقتل مستوطن (حاخام) إسرائيلي في 26 أغسطس/آب الماضي في مدينة "نتانيا" داخل فلسطين المحتلة.
في المشهد.. تغرز الجرافة الإسرائيلية مخالبها بسقف المنزل متغلغلة بداخل جدرانها تكسر أضلاعه، ثم رفعت أسنانها للأعلى، وغرزتها بقوة أكبر فسقطت بوحشية مرة أخرى، ثم عادت ثانية وثالثة، وانتقلت من السقف إلى الجدران.
على بعد أمتار من المشهد، تشاهد زوجة الأسير دويكات منزلهم على البث المباشر يصوره أحد أفراد العائلة ويبث على "فيسبوك" وهي تمسك هاتفها المحمول، ترى حلمها يهدم أمام ناظريها، تنظر بكامل اتساع عينيها مشدوهةً بما يحدث وكأنها أمام حلم لا تصدقه.
كانت تلك الضربات التي توجه إلى الجدران، تطرق أيضًا جدران قلبها، تسارعت معها نبضاتها، حتى أخرجت صرخة مقهورة سرعان ما دوى صداها بداخلها، تعيدها الذكريات إلى قبل عامين، وهي تساعد زوجها (يعمل في مجال البناء) في تجهيز الطابق الثاني من المنزل، وعملت في "حقل الرجال"، رافضة أن يساعده أحد غيرها، تناوله الحجارة فيقوم برصها، حجرًا على حجر.
تهجير وتشرد!
بدا صوت زوجته نجوى دويكات (44 عامًا) وقد غشيتها "عاصفة التهجير": "أعطاني الاحتلال مهملة أسبوع لتفريغ البيت، كنت أرى ذكريات عمرها خمسة وعشرون عامًا تهدم أمام عيني"، مضيفة: "كان صعبًا علينا، كنا عاجزين ولا نصدق ما نرى".
"رسالتي للاحتلال أن ما فعله ينافي للقوانين الدولية والإنسانية، وهذه النازية بحد ذاتها، وعقاب جماعي.. ما فعله لم يهدم عزيمتنا بالعكس زادنا تمسكًا وصرامة وقوة لتحدي الاحتلال، نرى حقدًا لا يتوقف عن معاقبتنا وهدم بيوتنا لكن لم أبكِ دمعةً واحدة".. قالتها بصوت صلب وكأنها ليست صاحبة البيت المهدوم، ورغم ذلك إلا أنها كانت تخفي بين ثنايا كلماتها حزنًا دفينًا على "مرارة التشرد" التي ستعيشها العائلة.
في صباح اليوم التالي؛ ذهبت نجوى وبناتها الستة إلى منزلهن أو للأرض الذي كان مبني عليها المنزل، ينظرون إلى تلك الحجارة التي رمادًا مع تراب الأرض، وإلى أشجار حديقتهم المنزلية التي اقتلعتها جرافات الاحتلال أيضًا.
كل واحدة منهن كانت تقف في مكان لوحدها تحاول ترميم ذكرياتها وإعادة بنائها داخلها، تقول: "وقفتُ فوق ركام المنزل، كنتُ حزينة، أنظر إلى الحجارة المتناثرة، إلى الأشجار التي اقتلعها الاحتلال"، تفكر نجوى في الأيام التي ستراها المقبلة، وهنّ "بلا مأوى" وفي أحسن الأحوال بيت مستأجر وحياة مشردة فرضها الاحتلال عليهن وهن اللواتي كان يعيشن في بيت جميل أمامه حديقة زاهية.
تقلب شريط الذكريات؛ "لقد بنى زوجي طابقا حينما كنا مخطوبين، كونه يعمل في مجال البناء، أما الطابق الثاني فبنيناه معًا، كنت أعمل معه كأني عاملة، أحمل الحجارة وأسير بها وهو يقف على لوح خشبي مرتفع عن الأرض بجانب الحائط، وأعطيه إياه".
ترثي حالها: "ضاعت أجمل الذكريات: أجواء رمضان، السهرات، الشتاء، حينما كنا نوقد النار ونتجمع مع زوجي وبناتي الستة في لمة عائلية".
الزوجة تبني البيت
تنهيدتها هنا محملة بمائة حكاية من الألم: "تخيل أنك تبني طابقا على مدار ثلاثة شهور، كنت أعمل فيه أنا وزوجي فقط، حينما يعود من العمل في البناء من الداخل المحتل، رفضت أن يأتي عامل ليساعدنا، وصممت أن أساعده وحدي، حتى اقتربنا من تجهيز الشقة بمساحة 150 مترًا، وخططت أن ننتقل للعيش فيها وأفتتح مشروع "حضانة" في الطابق السفلي لإعالتنا.. لكن كل شيء تحطم".
وأضافت: "كنا بكل شيء نتعاون، لما ينزل يحفر للشجر أساعده، ايدي على ايده، عمره ما جاب عامل.. ساندته في كل شيء، وهو كان يشتغل بحق الله عند الناس وفي بيته".
تخالج صوتها ضحكة عابرة سرعان ما تلاشت أمام مرارة الواقع: "قمة السعادة أن تعمل بيدك ولا تستعين بأي عامل، كنت أحمل الحجارة ذات الوزن الثقيل بحجم 20 سم، وأعطيها لزوجي، وتخيل حجم التعب والإرهاق على عمل لا يناسبني كامرأة".
منذ شهرين لم تسمع الفتيات صوتا من والدهن يبرد نيران خوفهن، يردن الاطمئنان عليه، تحاصرهم مخاوف أخرى من الحكم "المؤبد" الذي سيفرقهم سنوات عديدة.
تمرّ صفات زوجها على حديثها "خليل إنسان يحبه الجميع، صامت جدا، قبل أربع سنوات عانى من مشكلة بالنظر وظل يتلقى العلاج فترة كبيرة (..) كان صاحب حسّ مرهف، ففي يوم زواج ابنته بكى عليها وكأنه سيودعها بغير رجعة".
ولدى الأسير ست بنات وهن دانيا (21 عاما)، وشهد (16 عاما)، ودلع (14 عاما)، وليان (12 عاما)، وجنى (9 أعوام)، تجد أمهن نفسها أمام مسؤولية كبيرة فتقول: "المهمة أمامي، الآن بدي أحاول اختبار منزل الهم قريب من بيت جدهم".
ترك البنات ذكريات كثيرة على تلك الجدران التي مزقتها أنياب جرافات الاحتلال، رسوماتهن التي بقيت على الجدران، الأشجار والأزهار، أرجوحة التي حملتهم في طفولتهن وشبابهن.
"ما حدث عقاب جماعي، لماذا يعاقب الاحتلال عائلة كاملة على شيء لم يرتكبوه" هذه المرة الكلام لخالد دويكات شقيق الأسير. حسب إفادته لـ "قدس الإخبارية"، فإنّ العائلة لا تملك أية معلومات عمّا يتعرض له الأسير خليل داخل التحقيقات في مركز توقيق "بتاح تكفا" في منطقة اللد بالداخل المحتل، سوى تأجيل جلسة المحاكمة التي كانت مقررة في 26 أكتوبر/ تشرين أول الماضي إلى 12 ديسمبر/ كانون أول المقبل.
"يدعي الاحتلال أن قرار الهدم جاء بناء على "اعتراف الأسير خليل دويكات شخصيا بالقتل، وإعادة تمثيله للواقعة"، لكن العائلة تنفي هذا الاتهام، لا سيما وأنه أب لست بنات، يعمل داخل دولة الاحتلال بتصريح عمل رسمي ما يعني أنه لا "يوجد لديه أي شبهات أو حتى نية بتنفيذ مثل هذا العمل".
هذه ليست المرة الأولى التي يهدم بها الاحتلال الإسرائيلي منزل أسير فلسطيني؛ لكن "الغريب"، وفق عائلة الأسير دويكات أن المحكمة أصدرت قرارا بالهدم قبل أن تصدر حكمها النهائي على الأسير.