أفكاره متشابكة، ذكريات صباه وشبابه، تتجلّى في ذهنه بطريقة تاريخية على نحو ما، لم يفهمه، أمس وهو يسترجع أحداث يومه وحياته بأسرها، وكأنه بطلٌ تراجيدي، يتلقى ضربات القدر بقلب شجاع ونبيل، وكأن الأبطال لا يلقون كالعامة أحداثاً عابرة وعادية، وكل ما يحدث لهم جلل وقدري بالضرورة، كما أن الأحداث لا تُصنع من ذاكرته كومضات متفرقة، بل كخط متصل من نقاط متوالية بغير ما تَوَقع وتمهيد.
وكأي يومٍ بائسٍ كان، في الأسر، مع فارق أنه مكبّل اليدين والقدمين وجالساً في زنزانة حديدية تسير على عجلات وهي حافلة البوسطة، وما يربو عن عشر ساعات في ذهابه وإيابه للمحكمة وعلى مقعدٍ حديدي لا يزيد عرضه عن ثلاثين سنتمتراً، ورائحة الصدأ والقيء والأكل المتعفن تُشبع حواسه حتى الثمالة وعرق اليوم وبؤس المكان وبعض الذكريات الهاربة والأحلام المنتظرة، والحنين لما مضى والغد، والكثير الكثير من فوضى الحواس والأماني...
كان هناك جالساً تحت جُنح اللحظة والانتظار والإرهاق، يعُد الثواني بإنزاله إلى غرفته التي يقضي حُكم المؤبد بها، والخلاص المؤقت من عبئ المكان والخيالات، حدث ما سيرفع من شأنه درجة على سُلم البطولة.
وكعادتهم حُراس السجون، القتلة الموقوتون، هكذا تربوا وحُقنوا بالعنصرية واحتقار الآخر من غير جلدتهم، مضافاً لذلك خوفهم المُفرط من القِدم وعبر التاريخ من كُل ما هو فلسطيني وعلى أرض فلسطين والجبابرة حاضرون، فأي فرصة هي لحظة انقضاض يُستحال تفويتها بدون نفخ أو مبالغة...
وبدافع الفضول، والمعرفة العملية بالقتلة الموقوتون، فقد خَبِرهم كثيراً، استجمع قواه ووقف ينظر من شِباك فتحات زنزانته المتحركة، وعلى وَقع صراخ وشتم وركلات، وما رآه وأخرجه في لمحة جنون من المكان، من الشلل والتعطيل القسري الإنساني إلى عنقاء الحرية وصَولات السلاح، راح يَدق جدران زنزانته بيديه المكبلتين وقدميه كذلك، ويشتمهم بكل اللغات التي يعرفون ولا يعرفون، ويتوعدهم بالمزيد..
كانوا يدوسون الأسير صاحب الحظ العاثر ببساطيرهم دونما وازع، مجموعة كبيرة منهم، وهو مكبّل اليدين والقدمين مُلقى على وجهه ويتعالى صراخه ألماً ومناجاة، علَّ الله يبلغه إحدى الحُسنيين، فأبلغه وجوده.
تركوا فريستهم المستسلمة واستداروا دفعة واحدة، تصعقهم المفاجئة، وقد توقف الزمان والمكان في نفوسهم ومِن حولهم، تمرّد بل وهجوم وتعدّي في عُقر وكرهم؟!؟ يسبقهم حقدهم أخذوا يقرضون المسافة التي تفصل ما بينهم وبينه وعِصيهم الحديدية تتلمّظ بين أيديهم، تتشوق لحظة اللقاء به.
مُستفيداً من زمن فتح أقفال زنزانته الحديدية، استحكم إلى إحدى الزوايا كي يحمي نفسه من الخلف ولا يكون في مواجهتهم دُفعة واحدة، رافعاً يديه في الهواء استعداداً للمواجهة، وحالما وصلوا تصدى للضربة الأولى بسلاسل قيوده، ومن ثمّ هوى بكل ما أوتي من عزم بقيوده على وجه أحدهم، حتى كاد أن يجدع أنفه وقد عَلِق القيد في عظم وجهه، وقبل أن يسقط الاثنين عاجله آخر بضربة بهراوته الحديدية على فمه وآخر على رأسه وهذا آخر ما تذكره بعد صحوه في إحدى الزنازين مُلقى على وجهه بملابسه الداخلية، ورائحة الدم وطعمه يملئ أنفه وفمه وهو شبه خالي من الأسنان لا يقوى على رؤية الأشياء من حوله فكانت خيالات متراقصة، من فرط ضربه وأذيته.
وبعد أن صار فمه بيتاً مهجوراً بشبابيك وأبواب مفتوحة على مصراعيها، وتَصفر فيه الحروف والكلمات، وبعض الندوب التي تغطي الكثير من جسده، لامه الكثيرون _لربما تعاطفاً أو غير ذلك_ ما بالك والتورط في ذلك، فحتى فريستهم لا تعرف من أنت، وماذا حلّ بك لأجلها؟! أحمق أنت!! وهل الكف تواجه المخرز؟ وكان في كل مرة يرد باقتضاب "لو لم أكن ما كنت لسقطت من نفسي وهُنت" وآخرون كانوا يُربّتون على كتفيه ويقولون "هذا نهج الأبطال وقد انتصر دمك على سيفهم" وهو صامت باقتضابٍ أكثر.
وقد مرّ إحدى عشرة عاماً وهو في مواجهة بطولية مع أوجاعه التي تقض مضاجعه من جهة ووجبات أكله اليومية من جهة أخرى، في انتظار الخلاص، في الوقت الذي لا يقوى على مضغ حبة بَنَدورة، وما زال صامداً ويتقدّم الصفوف ويُناضل