منذ فتح مصلى باب الرحمة بقوة الجماهير في 22-2-2019 والاحتلال يصر بشتى الطرق على إعادة إغلاق هذا المصلى، ففتَح ثلاث جبهاتٍ متقاربة زمنياً: الأولى باعتقال كل من يفتح أبواب المصلى وإبعاده وقد أوقفت هذه الجبهة مؤقتاً بعد إعلان العائلات المقدسية تناوبها الأسبوعي على مسؤولية فتح أبوابه، والثانية بتكريس عدم اعترافه بباب الرحمة كمصلى، ورفض كل ما يصبغ عليه تلك الهيئة بدوس السجاد بالأحذية وسرقة الأثاث باستمرار، والثالثة بفتح خطوط التفاوض والضغوط والتهديد على الأوقاف الإسلامية لإعادة إغلاق المبنى بدعوى الترميم، ثم تحويل وجهة استخدامه إلى مكاتب أو أي شيء إلا المصلى.
الجبهتان الثانية والثالثة مفتوحتان ولم تتوقفا، أما الأولى فتوقفت شهوراً ثم أعاد المحتل تفعيلها بعد فترة إغلاق المسجد الأقصى بين 22-3 و 31-5 من عام 2020 بسبب انتشار جائحة كورونا، لكنه نقل تركيزه من الأبواب إلى استهداف كل من يتواجد في المصلى بالاعتقال والإبعاد عن الأقصى، وبالضرب والتنكيل إن أكثروا من الإصرار، حتى بات مصلى باب الرحمة اليوم شبه فارغ، بالذات في أوقات الصباح الباكر وخلال اقتحامات المتطرفين الصهاينة.
السؤال المهم الذي لا بد لنا من بحثه هو لماذا كل هذا الإصرار على باب الرحمة؟ وما الذي يمثله باب الرحمة للمحتل حتى يواصل استهدافه بإصرار على مدى عقدين من الزمن؟
أولاً: مثّل باب الرحمة ومحيطه المدخل الأهم لأجندة تقسيم الأقصى فوق الأرض، والتعويل عليه عمره يقارب اليوم 20 عاماً، بدأت بعد منع إخراج جزءٍ من الردم الناتج عن فتح البوابات العملاقة للمصلى المرواني عام 2000، مروراً بإغلاق المبنى بقرار قضائي صهيوني عام 2003 وبقائه مغلقاً أمام المصلين تحت وطأة ذلك القرار 16 عاماً، وصولاً إلى اعتماده قِبلةً مركزية للمقتحمين بدءاً من عام 2013 والكشف عن خارطة رسمية تقترح قضمه ومحيطه وتخصيصهما للمتطرفين الصهاينة.
هذا التعويل على ذلك المبنى على مدى عقدين من الزمن لن يتركه المحتل بمواجهة واحدة، خصوصاً وأن التقسيم ليس إلا مدخلاً لهدفٍ أكبر هو إزالة المسجد الأقصى بكامل معالمه وتأسيس الهيكل في مكانه وعلى كامل مساحته. وإذا ما أخذنا تجربة الاحتلال السابقة في محاولة تقسيم الأقصى بين ما فوق الأرض وتحته، والتي أحبطها فتح المصلى المرواني عام 1996 وفتح بواباته العملاقة بعد ذلك، فإن فقدان باب الرحمة سيمثل الهزيمة الثانية المدوية لمشروع التقسيم المكاني، وهو لذلك لن يقبَلها إلا ما دامت مفروضة عليه فرضاً.
ثانياً: مثّل فتح باب الرحمة بقوة الجماهير في 22-2-2019 تركيعاً عملياً مباشراً للمحتل، إذ وضعه وجهاً لوجه أمام عجزه المزمن في مواجهة الإرادة الشعبية وقوتها، فالخيارات كانت إما الدخول في مواجهة مع عشرات الآلاف من الفلسطينيين في ساحات الأقصى بكل ما تعنيه من احتمالات مفتوحة، أو التراجع، فاختار الثانية. لقد كان هذا أول إقرار من المحتل بعجزه عن مواجهة الإرادة الشعبية؛ لم يطلِق قنابل الغاز ولا الرصاص المطاطي، لم يُصَب جريحٌ ولم يرتقِ شهيد، لم تجرب قوات الاحتلال منع فتح الباب، بل أقرت بعجزها عن التورط من البداية؛ وهذا ليس إلا ثمرة كيٍّ بطيء ومستمر للوعي الصهيوني صنعته المقاومة جيلاً بعد جيل وثورة بعد ثورة وانتفاضة في إثر انتفاضة؛ هذا قطاف الزمن والتضحيات وليس حصيلة العدد مقابل السلاح فحسب. هذه شوكة عالقة في حلق المحتل، لم يتمكن من ابتلاعها، وما زال يناور ويعول على الزمن لعله ينزعها ولا يضطر إلى ابتلاعها.
ثالثاً: يرى المحتل في إغلاق باب الرحمة فرصة لكسر شوكة الفعل الشعبي في القدس، هذا الفعل الذي يتواصل ولا ينكسر، من هبة النفق 1996 إلى انتفاضة الأقصى 2000 إلى شد الرحال والرباط المؤسسي إلى اعتكافات 2013 إلى هبة رمضان 2014 وانتفاضة السكاكين 2015 فهبة باب الأسباط 2017 وباب الرحمة 2019، عقودٌ من الزمن، وتجريم للمؤسسات، وحظرٌ للحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة عام 1948 وملاحقة مستمرة للفصائل، وتغييبٌ للقيادات والناشطين، اعتقالٌ وقتلٌ وتنكيلٌ وهدم بيوت، عزلةٌ كاملة تُفرض على عائلات الشهداء، إغلاقٌ للمجال العام على مداخل البلدة القديمة في باب العامود ومن بعده باب الأسباط... يرى المحتل أنه حان وقت القطاف، والمدخل المناسب لضرب الروح الجماهيرية هو إعادة إغلاق مصلى باب الرحمة، أوعلى الأقل فرض تحويل وجهة استخدامه.
يريد المحتل أن يعزف أوتار حربه النفسية المعتادة: أن الشعب عاطفي ويثور دون نتائج، وأن المحتل هو القوة الثابتة والمؤسسة العاقلة، وهو الذي ينتصر في النهاية، وإغلاق باب الرحمة خير مدخل لبث هذه الرسالة في رَوع من اصطفوا لفتحه، كي لا يعودوا ليصطفوا ثانية في أي عدوان قادم على الأقصى. حرب المحتل أن يقول أن المقاومة بلا جدوى وأن الرباط وهم، وحرب الصمود بالمقابل تقوم على الإيمان بأن المقاومة ليست مقاولة تُحسب نتائجها على القطعة، بل هي جدوى مستمرة لا تنتهي إلا بالتحرير؛ وعلى الإيمان بأن الرباط هو ذروة سنام الصبر، فهو من بعد "اصبروا وصابروا"، هو تجارة مع الله تبتغي الفلاح في الآخرة، وجدواها تقاس بمعيار الآخرة لا بمعيار الدنيا وحدها.
وغاية ما يسعد المحتل ويطربه أن ينجح في لعبة العصا والجزرة، فيدفع الأوقاف الإسلامية والدولة الأردنية من ورائها إلى إغلاق مصلى باب الرحمة بيدها بمنطق "الحد من الخسائر"، فيكسر بذلك روح الفعل الشعبي بيد قيادته الدينية والدولة التي ترعى الأوقاف، ويقوض مشروعية الأوقاف في عين حاضنتها الشعبية، وينعش في الوقت عينه تعويله على قضم باب الرحمة بعد أن عاد مكتباً كما كان عند إغلاقه أول مرة عام 2003، فيضرب بذلك ثلاثة عصافير بحجر واحد؛ لكن موقف المرجعيات الإسلامية في القدس الذي صدر يوم الإثنين الماضي 13-7-2020 قطع عليه حفلة الصيد التي منّى النفس بنتائجها، حين أكّدت المرجعيات أن باب الرحمة جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى بقرار إلهي غير قابل للنقاش ولا للتفاوض ولا على ذرة ترابٍ منه، وهذا ما أكده شيخ الأقصى الشيخ رائد صلاح في حديثه للإعلام منذ أيام بعد ثلاثة أعوامٍ من المنع، وهذا ما ينبغي أن يستمر انعقاد الإجماع حوله كي يبقى كل عدوانٍ على الأقصى لا يحمل أي مشروعية، وكي يبقى الرباط سداً منيعاً يواجه عدوان المحتل، بل ويلغي مفاعيله بعد حينٍ حتى وإن وقع.