شبكة قدس الإخبارية

أمام الـ"مولات" والهراوات.. ماذا تبقى لأصحاب البسطات؟

89.JPG
عمر موسى

*تنشر هذه المادة بالتعاون مع "متراس"

ظُهْر الثالث من مايو/أيّار الجاري، هاجمتْ قوى الأمنِ أصحابَ البسطات في شارع وادي التفّاح، وسط مدينة الخليل، وسجّل مواطنون مقاطعَ فيديو لرجال الأمن وهم يقلِبون بسطات الباعة، ويزيلونها بالقوة. إثر ذلك، وقعَ عراكٌ بين الباعةِ ورجال الأمن، أفضى إلى عدّة إصاباتٍ، وإلى اعتقال 9 باعة متجوّلين، بزعم "الاعتداء على رجال الأمن"، حسبما أعلنت إدارة العلاقات العامة في الشرطة الفلسطينيَّة.

كان هذا بعد شهريْن من الإغلاقِ الكامل في الضفة الغربيَّة، بفعل حالة الطوارئ التي فرضتها السلطة في 5 مارس/آذار الماضي، وكلّ ما ألحقته الأزمة من أضرارٍ بالعمّال. نزلَ رجال الأمن في "مهمّة قانونيّة في الخليل"، كما سمّاها المتحدّث باسم وزارة الداخليّة، غسّان نمر، بهدفِ "منع التجمّعات وإزالة التعدّيات على الشارع العام". 

بينما شكّلت الحكومةُ لجنة تحقيق للوقوف على الحادثة، صرّحت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان- "ديوان المظالم"- أنَّ الاعتداء على أصحاب البسطات لم يسبقه إخطارٌ من البلديّة والأمن، بل على حين غرّة هاجمت قوة كبيرة من الشرطة، معزّزة بالشرطة الخاصة وبعض أفراد الأمن الوطنيّ، أصحاب البسطات، وأطلقت النّار في الهواء وخرّبت البسطات وأتلفت أخرى.

وثّقت الهيئة، أيضاً، اعتداءً خطيراً لرجال الأمن على العمّال وأصحاب البسطات، ما اضطر "بعض العمّال، وكردّ فعل لما تعرضوا له من الضرب، للاعتداء على بعض أفراد الأمن". 

اقرأ/ي المزيد: بلا عقود، وبلا تمثيل.. من يكفل حقّ عمّال القطاع الخاص؟ 

بعد أسبوعٍ من الحادثة، أصدر قاضي صلح الخليل قراراً بالإفراج عن الباعةِ الموقوفين بكفالة، إلَّا أنّ مدير شرطة الخليل قد رفض الإفراج عنهم وتنفيذ الأمر القضائيّ، وأبلغ عائلاتهم بأنَّهم موقوفون على ذمّة محافظ الخليل، وهو ما أشارت مؤسّسة "الحق" إلى عدم قانونيّته. وبينما يبقى مصيرُ الموقوفين مجهولاً، يبدو المشهد الذي عاشوه مألوفاً تماماً لنظرائهم في غزّة. 

البسطات في الضّفة وغزة.. همّ مشترك

قال موظفٌ في بلديّة غزّة: "اختفوا، بديش أشوف حد هان، وإلي بيظلّ ما يلوم غير حاله"، كان يخاطب أصحابَ البسطات، وهو يمرّ من بينهم في شارع الرّمال، وسط قطاع غزة، ليلة 9 أيّار/مايو. حينها، جرَّ البائع نور حلِّس (24 عاماً) بسطتَه ومضى باحثاً عن مكانٍ آخر، بعد أن سمعَ صاحبَ محلٍّ فخمٍ للملابس يقول: "هيك أنظف".

خلال الأسبوع الماضي، تكرّر طردُ بلديّة غزة- بصحبةِ رجال الأمن- لأصحاب البسطات من شارع الرّمال، بحجة "التعدّي على الرصيف وإعاقة حركة المواطنين". تحوّلت يوميَّات الباعة إلى ما يشبه المطاردات اليوميَّة من الكرّ والفرّ، حسب توصيف صاحب بسطة الأحذية حلِّس: "هم بيروحوا، وإحنا بنرجع".

توقيف ومصادرات

"اسأل أي حد شو هي البلدية؟ بيقلك هدول قاطعين أرزاقنا". قالها البائع محمد الطباطيبي (32 عام)، واصفاً نظرته لممارساتِ البلديَّة. مؤخراً، وخلال إحدى جولاتها، خرَّبت البلديَّة بمعاونة رجال الأمن بسطة الطباطيبي، وألقت ببضاعته على الشارع، مُصادِرةً بسطَته، ولم يكن موقفاً سهلاً. يقول: "أخذوا البسطة، ومن حرقة دمي هجمت على شرطي، وبعدها هجموا كلهم عليّ". 

تمّ توقيف الطباطيبي لمدَّة أربعة أيَّام، ثمّ أفرجَ عنه بعد توقيع تعهدٍ ماليّ  للبلديَّة بعدم العودة للبيع في الشارع، ولم يستطع استرجاع بسطته المُصادَرة. رغمَ ذلك، اضطرَ للعودةِ إلى العملِ، مع خوفٍ يوميٍّ من ضبطه مجدداً.

تعرَّض حلِّس لحالةٍ مشابهة، بعد أن صادرت البلديَّة بضاعته، بقيمة ألف شيكل، فاضطرَ لأن يستدينَ المال لشراءِ بضاعةٍ غيرها. وفي العادة، لا تُخطِر البلديَّة أصحابَ البسطات بالإخلاء، لكنَّها تستهدفُ بالغالب شوارعَ وسط النصيرات، وشارع الرِّمال، وهي مناطق مهمَّة بالنسبة للباعة. تعدّ هذه الشوارع حيويَّة وقريبةً من مراكز رئيسة وشعبيَّة، وتحاول البلديَّة مؤخراً إفراغها من باعة البسطات، ونقلهم إلى منطقة "سوق المصدر". يرفضُ أصحاب البسطات الانتقالَ إلى هذه المنطقة، باعتبارها غير حيويَّة، وبعيدة عن النقاطِ النشطة في المدينة.

معروضات إحدى البسطات على أطراف شارع الرمال، غزّة. عدسة: عمر موسى.

الـ"مولات" ووحوش المال 

في شارعِ الرّمال، مثلاً، يوجد أربعة مراكز تسوّق تجاريَّة. خلال السنوات الأخيرة، تحوّلت مراكزُ التسوّق الضخمة، ما يُسمّيه النّاس هنا "المولات"، إلى ظاهرة استثماريَّة في القطاع، فمع اشتداد الحصار الإسرائيليّ، وغياب بنى المشاريع الإنتاجيَّة، اتَّجهت رؤوس الأموال في غزَّة إلى إنشاء تلك المراكز والمجمّعات. في وقتٍ أغلقت فيه حوالي خمسة آلاف منشأة اقتصادية في مختلف القطاعات، بسبب الحصار، حسب تقديرات اللجنة الشعبيَّة لرفع الحصار عن غزة.

في مخيّلة الباعة المتجوّلين، تقف المولات إلى جانب جولاتِ البلديَّة ضدّهم، في تحدّيهم اليوميّ لتحصيل رزقهم، إذ تُهيمن المولات في غزَّة على مراكز الحركة الحيويَّة في القطاع وتستحوذ على الحصَّة الأكبر من الزبائن، عبر ميّزاتها وخدماتها الضخمة، ما يؤثر بشكلٍ كبير على الدخل الماديّ لأصحاب البسطات.

 تُصادَر البسطات لـ"إفساح المجال أمام المحلّات المرخَّصة"، وتبرِّر البلديّة والشرطة طرد الباعة من الشوارع الرئيسيَّة بحجّة "تقليل الاحتكاك والجمهرة". في المقابل، يلاحظُ المتجوّل في المولات والمحلات ازدحامَ الناس داخلها، بينما بالكاد يقف قبالة البسطة شخصٌ أو اثنان، وفق قول البائع حِلّس، الذي يضيف: "المولات ووحوش المال ماكلين الدنيا". 

تنسحب آثارُ المولات على أصحاب البقالات الصغيرة أيضاً، وذلك بعد أن سيطرت هذه المولات على الحصّة الكبيرة من البيع خلال المواسم الكبرى، مثل شهر رمضان والأعياد. في تلك المواسم، اعتادت الجمعيّات الخيريّة التوّجه إلى أصحاب البقالات لشراء مواد تموينيّة منها للمحتاجين. أما اليوم، فإنّ كثيراً من الجمعيّات الخيريَّة تتوجه إلى المراكز التجاريّة الكبيرة -المولات، ومعها المناقصات التجاريّة الكبيرة التي تتيح المضاربة الحادة في الأسعار. 

يقول أحمد أبو ريا (25 عاماً)، وهو صاحب بقالة في معسكر جباليا، إنَّ المواسم قد تحوّلت إلى فترات ضيقٍ ماديّ، بعد أن كانت فرصةً للانتعاش. في السابق، كان يمدّ أبو ريا سكان حيّه بمؤونة رمضان، ويصرفُ لهم القسائم الشرائيَّة الخيريَّة (الكوبونات)، أما الآن، فتحوّلت المولات إلى قبلةٍ للجمعيَّات الخيريَّة والناس، لما تقدّمه من عروض بيعٍ منافسة، بحكم إمكانيّاتها الأعلى، واستفادتها من مناقصات ضخمة مع التجار الكبار. 

معروضات إحدى البسطات على أطراف شارع الرمال، غزّة. عدسة: عمر موسى.

تَخلُص تقديرات اقتصاديَّة إلى أنّ ظاهرة مراكز التسوّق ستلقي بظلال سلبيَّة على الفقراء في غزّة، فتتركّز فوائد هذه المشاريع الاستهلاكيّة في جيب أصحاب رؤوس الأموال، بينما يعيش 85% من سكّان القطاع تحت خطّ الفقر. وسيكون أثرها السلبيّ أشدّ على أصحاب المشاريع الصغيرة، وعلى نسبةٍ كبيرة من عمّال غزة، ممّن يمتهنون أعمالاً حرَّة، ويعتمدون على تلك المشاريع.

في غضون ذلك، تهدّد البلديّة أصحاب البسطات في شارع الرّمال، بحرمانهم من العمل خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان، والتي عقدوا عليها آمالاً كبيرة، خصوصاً مع عودةِ الحياة إلى الأسواق تدريجيّاً. يقول الطباطيبي إنَّه يخشى خسارة الموسم، بعد أن استدانَ ثمن بضاعته كلّها من تاجرٍ آخر.

من الضفّة وصولاً إلى غزة، يعيش عمّال البسطات سلسلةً من الانتهاكات المتواصلة، وتتراكم شهاداتُهم حول حوادث التخريب والمصادرة التي يعيشونها، بينما يزحفون يوميّاً من مناطقهم صوب النقاط الحيويَّة في المدينة، أملاً في تحصيل دخلٍ لهم ولعائلاتهم. ويتكرّر السؤال حول البديل المطروح على هؤلاء، سوى تركِهم في وجه العوْز، وهراوات الأمن لهم في المرصاد.