شبكة قدس الإخبارية

بالجرافة دهست «راشيل كوري» وصلبت «محمد الناعم»

على آلة القتل.. (إسرائيل) شنقت «الضمير الإنساني» مرتين

89
يحيى اليعقوبي

شاب فلسطيني أعزل يعلق على أسنان كف جرافة "إسرائيلية"، ومتضامنة أمريكية تدهس تحت جنازيرها، كانت المسافة بين المشهدين 17 عامًا، اختلفت الفترة الزمنية لكن بقيت آلة الشنق والقتل واحدة، لم تتغير مع مرور الزمن، لتشنق (إسرائيل) بذلك  الضمير "الإنساني" الحي وتضعه تحت جنازير جرافاتها العسكرية، قبل أن تعدم الشاب الفلسطيني محمد الناعم (27 عاما) ومن قبله الفتاة الأمريكية راشيل كوري.

جسد نحيف لفتاة شقراء ابنة الـ 23 ربيعا، كان حلمها أن يغمر السلام  العالم، لكن مصيرها  كان أن يتهشم أسفل جنازير جرافة اسرائيلية، قضت على حياتها وهي في مهد حلمها، وروت دماءها هذه الحكاية، وبقيت صورة التقطت آنذاك لتذكرنا براشيل "أيقونة السلام"، التي لم تشفع لها ملامحها الأجنبية أمام سائق الجرافة.

مشهد قتل راشيل تجدد مرة أخرى بعد 17 عامًا من رحيلها .. الثالث والعشرون من فبراير/ شباط 2020م ؛  بعد الصبح بقليل؛ أطلق جيش الاحتلال عليه قذيفة دبابة؛ ثم أرسلوا جرافة إسرائيلية لتسحب الجثمان .. حاول شبان متواجدين بالمكان، الوصول إليه قبلها فسحبوه لعدة أمتار متجاهلين الرصاص المطلق تجاههم، أحدهم لم يشعر بتلك الرصاصة التي أصابته؛ كان همهم سحب الجسد، لكن أنياب "الكباش الإسرائيلي" وصلت وبدأت بسحق عظام جثة هامدة صعدت روحها في القذيفة الأولى، ثم طمرها بالطين وتقليبها بالكباش ككرة قدم يركلها لاعب بساقه ويجري خلفها، أو كـ دمية يداعبها طفل صغير يرميها ويمسكها، تعاود الجرافة الكرّة مرة ثانية وثالثة ورابعة.

ثم علق سائق "الجرافة" رأس الشاب الممزق جسده بين أسنان الكباش، ورفعه إلى الأعلى وكأنه نصب له مشنقة، كانت الحبال هنا أنياب أحكمت قبضتها على رقبة جثمان الشاب محمد علي الناعم (27 عاما)، في مشهد غاب عنه الضمير الإنساني، هو في الحقيقة شنق كل قوانين حقوق الإنسان.

سارت الجرافة للأمام باتجاه دبابة أخرى .. ارتخى الجسد وهدأت أصوات الرصاص المصوبة تجاهه يفرد ذراعيه للريح، بجسد وأشلاء ممزقة .. ودماء تسيل، وروح صاعدة، آثار البارود تركت بصمة على ملابسه،  الدماء تتسرب منه، مشهد هز ضمير الإنسانية إلا ضمير سائق الجرافة وقادة الاحتلال الإسرائيلي فتباهوا بـ"الجريمة" التي وثقتها عدسات الكاميرات شرق مدينة خان يونس.

عقارب الساعة وصلت في دورانها عند الثامنة والنصف صباحا، لم يصل الخبر بعد إلى منزل آل "الناعم"؛ والدته "أم حسن" تنظر - من نافذ غرفة نجلها وهي تحدث شقيقتها عبر الانترنت-  إلى ثلاجة الموتى بمستشفى ناصر بمدينة خان يونس المجاورة لمنزلها، مشاركة إياها هذا المشهد: "يختي؛ في ناس عند المشرحة كتيرة، أبصر ايش صاير؟"، لم تجد إجابة لسؤالها لكن الأخيرة قربت الأمر: "الفجر استشهد شابين على السياج بخان يونس .. والأخبار مقلوبة".

"أم حسن" تعبر عن حزنها بذلك لشقيقتها: "الله يصبر أهله يارب".

انتهت المكالمة مع شقيقتها، لكنها شردت في تفكيرها وبدأت الأسئلة تباغتها، فأخذها قلبها إلى عند ابنها، لكنها شردت من هذا التفكير تحدث نفسها: "لو ابني كان حكولي"، وأكملت عملها بالبيت بشكل طبيعي، عادت مرة أخرى فتحت النافذة وجدت أعداد الناس تتزايد بالمشرحة والمستشفى وأمام منزلها، بلحظة لمحت ابنها "بلال" الذي يسكن بغزة متوجها بسرعة للبيت، الحركة في الخارج أصبحت غير عادية، هاتف زوجها يرن ارتجف قلبها مع صوت رنين الهاتف وما صاحبه من رجات متعددة، وما أن انهى زوجها الرد على المتصل، سألته بنبرة مرتجفة: "ايش بده ابنك برن عليك .. ايش فيه؟"، ليخبرها زوجها بأصعب خبر على قلب أي أم نزل هنا كصاعقة: "مصاب والاحتلال أخذه".

زوجته "هبة الكرهلي" لا زالت تتجاهل كل المكالمات الهاتفية الواردة على هاتف زوجها الذي تركه بالبيت، فدائما ترد مكالمات عديدة مثلها، لم تثر هواجسها كثيرًا، حتى أفزعها صوت رسالة هاتفية ترك صدى صوت الرنين أثره بالغرفة واخترق قلبها وافتعل ضجيجا فيه أخرجها من حالة الهدوء، وأجبرها على فتح الرسالة وما إن قرأت نصها الذي يفيد باستشهاد زوجها.

وكأن الدم تجمد في عروقها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجت دقاته وهي تقرأ الرسالة، مطلقة العنان لدموع حزنها بالجريان على وجنتيها، ولصوتها بالانفجار الذي لم يسمعه غيرها، شقيق محمد ويدعى بلال والذي كان يشاهد فيديو "الجرافة" بعمله يشارك زميله بمشاعره: "يا الله ما أبشع هالمنظر .. ليش عملوا هيك بهدا الشاب" ولم يعرف أن من في الصورة هو شقيقه حتى جاءه اتصال، وأخبره المتصل، أنه مصاب فربط بين المشهد والاتصال ليعرف أن من شاهده هو شقيقه.

في داخل منزل عائلة "الناعم"، الدموع تركت أثرها حول عيني والدة الشهيد بعد أن نال وجع الفراق منها ما ناله منذ الصباح، تنهيدات الوجع التي تخرج من حنجرتها "المحروقة"، تروي مائة حكاية من الألم، تقاطع الدموع صوتها: "حرام عليهم اللي عملوه فينا .. مش استشهد شو بدهم هيك يعملوا فيه".

يحاول والده تمالك نفسه لكنه لم يجد وصفا لما حدث مع نجله .. احتارت كلماته هنا: "المشهد بشع ولا وصف له، رغم أنني لم أره ولا أريد رؤيته لأني فهمت مضمونه من الوصف ورأينا كيف ينكلون بالناس بالضفة، لأن هؤلاء (جيش الاحتلال) يستخدمون أبشع الأساليب في الانتقام من الناس وهذا ما يقهرك".

"راشيل" تحت الجنزير!..

وما أشبه اليوم بالأمس، بين راشيل ومحمد .. تلك الطفلة الأمريكية التي وقفلت أمام الجميع في الحفل النهائي للفصل الدراسي بالمرحلة الابتدائية، وقالت بصوتها الحنون الممتلئ بالطموح والقوة: "علينا أن نفهم بأن الناس في دول العالم الثالث يفكرون، يهتمون، ويبتسمون ويبكون مثلنا تماما"، من تلك اللحظة التي رأيت فيها شعرها الذهبي وجدائلها التي تعكس الوجه الآخر لخيوط الشمس وعيناها الزرقاوتين الممتلئتين بالأمل، رأيت عالما عميقا بداخلها مليئا بالسلام، أدركت أن اسم راشيل سيعرفه العالم، لكن لم أتوقع أن يكون بتلك الطريقة.

قبل 17 عاما؛ حملت "راشيل" سنوات عمرها العشرين وحبها للسلام، تركت دراستها في كلية الفنون، واتجهت نحو العمل التطوعي من أجل نصرة المظلومين في فلسطين، للأسف؛ حلمها في القضاء على الفقر لم يتحقق لكنها أوصلت رسائل انسانية أكبر هي نفسها لم تكن قد كشفت إحساسها المرهف الذي جعلها تشعر بواجبها الإنساني لنصر شعب غفل الجميع عن نصرته.

لروحك السلام يا رشيل؛ فأنت حمامة السلام وأيقونة الشجاعة، تركت رفاهية الحياة وتخليت عن جمال أمريكا، بمدنها، وأشجارها، وغاباتها، وكابدت وعايشتي عذابات الشعب الفلسطيني بين زقاق مخيمات اللاجئين الضيقة، تبكين مع كل قذيفة تستهدف بيتا فلسطينيا آمنا، تغضبين إن رأيت قوات الاحتلال يطلقون النار على المواطنين أمامك، تسيرين بقوة وشجاعة حتى آخر لحظات حياتك.

" أعتقد أن أي عمل أكاديمي أو أي قراءة أو أي مشاركة في مؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي" .. هذا مما جاء في رسالتها الأخيرة التي أرسلتها لأهلها في الولايات المتحدة قبل قتلها.

وكأنها كانت تعتقد أن موتها  سيؤكد للعالم معنى المأساة التي يعيشها الفلسطينيون ومعنى التعذيب اليومي الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلية عليهم.

في السادس عشر من مارس/ أذار 2003م، ارتدت  راشيل سترتها البرتقالية، تعترض إحدى الجرافات الإسرائيلية، أمسكت مكبر الصوت بيدها، تحاول منع الجرافة من التقدم وهدم بيت مواطن فلسطيني وتجريف الأراضي الزراعية بحي السلام بمدينة رفح جنوب قطاع غزة.

رداءها، البرتقالي، نداءاها عبر مكبر الصوت، شعرها الأشقر، ملامحها الأجنبية، شعار التضامن، كل ذلك لم يمنع سائق الجرافة من خرق القانون الإنساني وارتكاب جريمة بشعة هزت الضمير الدولي، كما وثقها صحفيون ومتضامنون غطوا عملية هدم المنازل الفلسطينية وقتها، تعمد فيها دهس راشيل والمرور على جسدها بالجرافة مرتين أثناء محاولتها لإيقافه قبل أن يقوم بهدم المنزل الفلسطيني.

رفعت عائلة الشهيدة راشيل كوري دعوى قضائية ضد جيش الاحتلال الا ان محكمة الاحتلال المركزية في مدينة حيفا ردت في 28 آب/ أغسطس 2012 الدعوة القضائية التي رفعتها عائلة راشيل كوري، وبهذا القرار فقد برأت المحكمة الجيش الإسرائيلي من المسؤولية عن قتلها.

وبررت المحكمة:" ان راشيل هي التي "ورطّت نفسها في الحادث".

غابت العدالة القضائية عند الاحتلال الإسرائيلي عندما كان هو "الخصم والحكم"، لم يرحمها حية ولم ينصفها ميتة.

تحولت راشيل إلى "أيقونة" للتضامن العالمي مع شعب فلسطين وخلد اسمها في العالم، خاطرت بحياتها كي يلتفت العالم إلى معاناة الشعب الفلسطيني اليومية من جرائم الاحتلال ودفعت ثمنا لذلك، تركت العديد من الرسائل لتذكرنا بها، رحلت راشيل و هي تودع السلام و تقول بأن صوت الحرية لا يجب أن يُخمد وبأن فلسطين هي قضية العالم أجمع و ليس قضية شعب واحد.

حلمت راشيل أن يغمر السلام العالم، ورسمت صورة مميزة لهذا الحلم من الأعلى، أحبت أن تنقل للعالم أن الفلسطينيين شعب يحب الحياة، والأمل، رحلت وبقيت سيرتها تذكر الجميع بإنسانيتها ومواقفها الحية التي لم تمت، قتلها الجرافة الإسرائيلية ولكنها لم تقتل حلمها الذي أكمله بعدها آلاف المتضامنين من كافة البلدان، ساروا على دربها ورفعوا شعارها.

راشيل يا "حمامة السلام"  على العالم الصامت على جريمة قتلك أن يخجل، من بلادة الشعور؛ فمع كل جريمة تحدث بنفس الطريقة فإن راشيل تموت أيضا مرة أخرى، فها هو الشاب "محمد الناعم" يرحل بطريقة لا تقل بشاعة عن قتل راشيل، جريمتان تؤكدان أن الاحتلال الإسرائيلي ليس لديه خطوط حمراء، وأنه يتعالى على قوانين حقوق الإنسان، لا يكتفي بالقتل بل ينكل بالقانون الدولي  بلا رحمة، لم يعاقب سائق الجرافة قانونيا على جريمته، فظلت تلك الجرافات منذ 17 عامًا، آلة القتل التي تشنق بها (إسرائيل) الضمير الإنساني.