الجذر التكعيبي والقيمة المطلقة المنسية
على امتداد تاريخ جامعة بيرزيت العريق والمثقل بالمسؤوليات الوطنية العامة والخاصة، جابهت روح هذه الجامعة كافة المتغيرات و التيارات التي تعصف بالقضية الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني بروح عالية وعزيمة ملؤها التحدي ومضامين الانتماء للوطن وقضاياه الكثيرة والمعقدة.
قد يكون من المستغرب لقارئ يقرأ هذا المقال في المانيا مثلا أن نبدأ بالحديث عن صرح تعليمي وبذات الوقت ندمج الاكاديميا بطريقة مباشرة بقضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية تتمثل بما اصطلحنا على تسميته القضية الفلسطينية، لكن هذا الدمج بالنسبة لنا وللجميع ما هو الدمج بديهي كوننا نؤمن و نعلم جيدًا أن كل ما يتعلق بنا كفلسطينيين هو امتداد طبيعي لقضيتنا التي نؤمن بعدالتها وبحتمية نصرها، فان اخطأنا فاننا نسيء لانفسنا ولقضيتنا، وأن اصبنا فاننا نَجزي أنفسنا الخير ونُكسب قضيتنا الرّفعة، فجامعة بيرزيت بأعمدتها الثلاثة من طلاب وموظفين وإدارة وإن كانت منهجيًا جامعة أكاديمية إلا أنها لا منهجيًا هي الصرح الوطني الأقوى والأكثر تاثيرًا على الساحة الفلسطينية.
في ثمانينات القرن المنصرم حين اشتدت وعمت المواجهات في أرجاء الضفة والقطاع صرّح المقبور بيريز رئيس وزراء الاحتلال بأن "على الجيش أن يغلق مقرّات منظمة التحرير" فأُغلقت بيرزيت فورًا كأول وأكبر هذه المعاقل، وحين أراد نتنياهو أن يتباهي بالقوّة التي يمتلكها كيانه صرّح بأن "على القيادة الفلسطينية أن تعترف بيهودية الكيان من قلب جامعة بيرزيت" وذلك قبل أعوام قليلة.
مؤخرًا أُغلقت جامعة بيرزيت بقرار من مجلس الطلبة و الحركة الطلابية، لم يشهد الرأي العام والشارع الفلسطيني الازمة على حقيقتها كون الصورة الكليّة مبتورة نوعًا ما وغير مكتملة ويشوبها الكثير من النقص وعدم الوضوح، وما علمت به الاغلبية من الشارع الفلسطيني هو فقط رواية الجامعة بالدرجة الأولى بأن هناك منعًا للعسكرة قُوبِلَ من الطلبة بالإغلاق وبرّروا إغلاقهم هذا بأن أدرجوا مطالب لم يتحاوروا بها مع إدارة الجامعة، هذا بشكل عام.
هنا وفي هذا المقال نحن بصدد أن نعرض الواقع كما هو بحيادٍ وموضوعية تجاه الازمة في جامعة بيرزيت، وسماع صوت الإدارة والطلبة وقرع جدران الخزان من كل الاتجاهات.
قبل ايام، نشر الاستاذ غسان الخطيب -عضو مجلس الجامعة سابقًا والذي يشغل حاليًا منصبًا استشاريًا لذات المجلس وهو أحد أساتذة الجامعة أيضًا- مقالًا قال فيه إن للأزمة الحالية ثلاثة جذور وأوضحها برؤية تعبّر عن رؤية الإدارة للأزمة الحالية على وسائل الإعلام (أي أنه قام بتصدير الأزمة من داخل الجامعة إلى خارجها) وكمثله فعل العديد من الاساتذة من المنتسبين لمجلس الجامعة أو المقربين من مجلس الجامعة حيث نشروا المقالات والإدانات عبر وكالات الأنباء المرئية والمسموعة والمقروءة ووسائل التوصل الاجتماعي.
أما عن الجذرين الاول والثاني فقد ذكر الاستاذ الخطيب بأن هذا الإغلاق هو إغلاق قسري واستخفاف بقانون الجامعة ولا يحمل أية مطالب نقابية بل أن كل المطالب الطلابية هي مطالب "غير قانونية وغير أخلاقية" وحذّر من انتهاك الحريات كي لا يسود "قانون الغاب" حيث القوي ياكل الضعيف، وأن السبب الحقيقي للأزمة يتمثل في منع الجامعة للعسكرة التي اعتبرها الخطيب "مظاهر فصائلية" قادمة من خارج أسوار الجامعة فقام الطلاب باغلاق الجامعة كردٍ على منع العسكرة.
قبل الولوج للجذر الثالث، لنقف هنا قليلًا، إن المطالب التي تم عرضها من قِبل مجلس الطلبة والحركة الطلابية هي مطالب نقابية بحتة لتحسين الواقع الطلابي وبعضها حقوق تم اجتثاثها جزئيًا من إدارة الجامعة في الأعوام القليلة المنصرمة، لم تكفّ الحركة الطلابية بالمطالبة بها وعند توجيه السؤال لممثلي الطلبة كان الجواب بان هذه المطالب عُرضت على الإدارة التي بدورها قامت بالمماطلة والمراوغة لعدم خوض أي حوار بخصوصها وكان تعامل "نواب رئيس الجامعة" نرجسيًا بل ومتعاليًا أيضًا.
وبالنسبة للأحداث الأخيرة فهي أمور اعتيادية على بيرزيت وتحدث في كل عام حيث أن المعالم والمظاهر "الوطنية" والتي نعتبرها جزءًا منا ومن موروثنا وحاضرنا النضالي كاللثام أصبحت من أعراف الجامعة بل والمجتمع الفلسطيني بشكل عام، ويواجه الطلبة استخدام مصطلح "العسكرة" بقوّة لان هذا المصطلح يعتبرونه مصطلحا توريطيًا لا تعريفيًا لوصف الحدث، فالعسكرة تعني وجود الاسلحة والذخائر وما نعلمه جميعا عن تعريف هذا المصطلح، أما اللثام وما يشابهه من الأدوات والمظاهر فهو ليس عملًا عسكريًا بل مظهرًا وطنيًا نعتز ونعتد به تمامًا كالكوفية.
إن الفكرة التي يستند إليها الطلبة بشكل عام هي أن الإدارة عندما تريد شيئًا من الطلبة فهي تستند إلى قاعدة كنّ فيكون، أما عند حقوق الطلبة ومطالبهم النقابية فالمماطلة سيدة الموقف، ومن هنا فان الطلبة يعتبرون ما يحدث بحقيقته هو تغيير لنهج الجامعة وتقييد للحريات وللاجواء الليبرالية التي صنعت لبيرزيت خصوصيتها وجاذبيتها.
وما كانت "العسكرة" إلا القشة التي قصمت ظهر البعير وعجّلت بولادة ما كان ليحدث عاجلًا أم أجلًا أمام مماطلات الإدارة وتعنتها ألا وهي الأزمة الحالية، ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن الأزمة كانت حقيقة وحتمية والمسألة كانت مسألة توقيت لا أكثر لحدوثها.
أما عن ثالوث الجذور وأخطرها على الاطلاق فقد قال الخطيب بأن الحركة الطلابية غير موحّدة وتعتريها الانقاسامات وأن الشيء الوحيد الذي جمع هؤلاء "القلّة" من الطلبة هو ذبح الجامعة.
إن الحالة الفلسطينية بشكل عام هي حالة يعتريها الكثير من التعقيدات والتجاذبات والوجهات، فالحركة الوطنية بشكل عام في حالة من الركود والمرض وهذه الحقيقة التي لن يستطيع أحد إنكارها، أما عن الطلبة فالوحدة الوطنية هي أحد أهدافهم المنشودة والتي قد يصيبون أو يخطئون اثناء المسير نحوها/ فمن يعمل يصيب ويخطيء.
أما عن الاتفاق على ذبح جامعتهم فهي محض افتراءات لا أساس لها، بل إن الحقيقة الخطيرة تقول -وعلى لسان ممثلي الطلبة- إن بعض الأطراف حاولوا اللعب على وتر إثارة الخلافات بين حركة الشبيبة الطلابية والتي بيدها رئاسة مجلس الطلبة والقطب الطلابي والكتلة الإسلامية وكتلة الوحدة واتحاد الطلبة التقدميين, لخلق إشكال داخل الاعتصام على مستوى الأُطر الطلابية والمستوى الفردي بين الطلبة كنتيجة للمستوى الاول.
إن هذه المحاولات جميعًا بائت بالفشل فأثبتت الحركة الطلابية بكل مكوناتها بأنها تتحد على الّا تتفرق قدر الامكان في اي قضية تواجهها.
إن الترهّل الحقيقي هو أن يصل الأمر إلى التلاعب بالوحدة الطلابية لأجل اهداف آنية صغيرة يمكن تجاوزها بطرق شرعية ووطنية لحلّ الأزمة، لا بتقديم ادّعاءات والعمل عليها في آن واحد لتحقيقها وتكريسها والاستفادة منها دون الأخذ بعين الاعتبار ارتدادات هذه الأفعال على المنظور القريب أو البعيد، فمجلس الطلبة والحركة الطلابية لم يكونوا السبّاقين بتصدير الأزمة لخارج أسوار الجامعة، إذ حصروها لتبقى في البيت الواحد وداخل الأسوار، ولم يقوموا بأي فعاليات لتصدير روايتهم للرأي العام والشارع الفلسطيني ودحض ادعاءات ادارة الجامعة "التوريطية" ولو من باب الدفاع عن النفس إلا في حالة قدوم وسائل الإعلام إلى الجامعة أو الاتصال بهم من اجل مقابلات، حيث أنهم لم يبادرو أبدًا بالتواصل مع الخارج قطعيًا.
كثيرة هي المقالات والمقابلات والكتابات والمنشورات التي حاولت جاهدة شقّ طريقها في سبيل شيطنة مجلس الطلبة والحركة الطلابية، فالأستاذ ابراهيم ابو هشهش على سبيل المثال لا الحصر كتب مقالًا تحت العنوان "اغلاق عن اغلاق بفرق" والأستاذ موسى خوري كتب تحت العنوان "طقم المفاتيح" وكلاهما أرادا إيصال ذات الرسالة بأن مجلس الطلبة وجيش الاحتلال هما الجهات الوحيدة التي أغلقت الجامعة، في محاولة لربط أفعال الطلبة بالاحتلال في تلميح معيب ومجروح وغير موفق إطلاقًا.
فالنبي محمد عليه السلام كان يحج بالكعبة، وأبو جهل (سيّد كفار قريش) كان يحجها أيضًا، أما النبي فكان يحجها تقرّبًا لله الواحد، وعن أبي جهلٍ فقد كان يحجها للتقرب لأصنامه هبل واللات والعزة مشركًا عبادة الأحجار مع الله، قد تتشابه الأدوات والوسائل لكن الأهداف تختلف، فالاحتلال عندما أغلق بيرزيت أغلقها ليخفف عن نفسه وطأة شرارة بيرزيت التي كانت لهبًا في شوارع الضفة وغزة، وليقطع هذه المسيرة أو يضعفها، أما عن الطلبة فيغلقونها كي تستمر هذه المسيرة التي يحاربها الاحتلال لأنهم أكثر من يضيق بهم الحال في كل ما يحدث.
إن الاغلاق ليس هواية طلابية في بيرزيت، فهو ليس هدفًا بل الوسيلة، وهو آخر الوسائل التي يلجأ إليها الطلبة، إن النظر للصورة من بعيد قد يدينُ طلبة بيرزيت، ولكن عند التمعّن جيدًا في هذه اللوحة سنجد أن تكرار إغلاق الجامعة من قِبل الطلبة ما هو إلا دليل على تعنّت الإدارة بالاستجابة لمطالب الطلبة ووضعهم في عنق الزجاجة فيتم اللجوء لاخر أوراقهم ألا وهو الإغلاق.
إن تكرار الإغلاقات ما هو إلا دليل صارخ على ضعف التخطيط الاستراتيجي والسليم لدى إدارة الجامعة لحل الأزمات أو إدارة الأزمات على أقل تقدير، في صرح علمي وجامعة تعتبر نفسها ويعتبرها الاخرون عنوانًا للريادة والابتكار.
أما عن الأستاذ خالد تلاحمة فقد كتب مقالًا تحت عنوان "جامعة بيرزيت حاضنة الحركة الطلابية" طالب فيه بودٍ واحترامٍ وحرصٍ أبويّ مجلس الطلبة والحركة الطلابية بالاتصال المباشر مع الإدارة بفتح الحوار والاندماج في الآنا الجمعية والتخلي عن الآنا الفردية، طلبه هذا محق ومنطقي وهو ما حدث فعلا حيث أن مجلس الطلبة وافق على العديد من المبادرات التي تم طرحها (أولها مبادرة نقابة العاملين) بل واستفاض مجلس الطلبة حيث قام بطرح بوادر حسن النيّة (فتح الجامعة لموظفي المالية) لإحداث تقارب مع الإدارة، ومع كامل الاسف قوبلت جميعها بعقلية نرجسية ورفض تام من الإدارة وتم وأدها في مهدها سواء بوادر حسن النيّة أو المبادرات التي تم تقديمها وقبلها مجلس الطلبة لحل الأزمة.
أما عن الأستاذ جورج جقمان والذي حاول اللعب بالمحظور بشكلٍ علني وذلك بإبراز تناقضات مفترضة قد تؤدي لإثارة بعض الاشكالات بين أركان الحركة الطلابية (وإن كان ذلك بغير قصد أو لسوء تقدير الموقف) حيث تعامل مع الحركة الطلابية كأجزاء متفرّقة لا كالجسد الواحد لتكريس الفكرة بان هذه الجموع من الطلبة "تحسبهم جميعاَ وقلوبهم شتّى" في مقاله "لماذا فقدت الحركة الطلابية في الجامعات الفلسطينية البوصلة" فالرد عليه يكون بتوجيهه لقراءة مقال الاستاذ عماد غياظة "أين أوصلت أوسلو ثقافة الجامعات الفلسطينية" والتمعن بهذا المقال جيدًا، أما باقي ما ذُكر فيه فأتفق او اختلف واياه فذلك يُعتبر سبيلًا آخر. وللتوضيح أكثر، إن المحظور المقصود هنا ليس محظورًا في الظروف الاعتيادية فمساحة الحريات ووضع اليد على الجرح حاجة ملحّة لنا جميعًا، أما في ظروف الازمة فهو يعتبر ترويجًا لفكرة بطريقة غير مباشرة وما بعد الترويج إلا التكريس وهو ما يجب أن نرفضه ونحاربه، لأن هكذا أفكار في أجواء مشحونة كالتي تعيشها بيرزيت سهلة الاستثمار من قبل ايّ عابث.
في الختام, ان جذور بيرزيت الحقيقة هي ثلاثة, لكنها ليست ذاتها التي ذكرها الاستاذ غسان الخطيب.
الجذر الاول هو الطلاب ممثلين بمجلس الطلبة، والثاني يتمثّل بالموظفين من أساتذة وإداريين وعاملين ممثلين بنقابة العاملين والثالث إدارة الجامعة ممثّلة بمجلس الجامعة ورئيسه والذي هو رئيس الجامعة.
أما بالنسبة للجذر التكعيبي فهو يتميز بإمكانية دخول القيم السالبة (الأزمات والاشكاليات) إليه وخروجها بأريحية كناتج، إن أي تجمع إنساني أو كيان بشري في وضعه الطبيعي عرضة لحدوث الاشكاليات ومواجهة التحديات والأزمات، ودخول السالب إلى جذر الجامعة التكعيبي هو وضع طبيعي فبيرزيت كيان قائم على النشاط البشري في نهاية المطاف.
أما ما هو غير طبيعي فهو أن نسمح بدخول القيم السالبة إلى حيّز صرحنا بيرزيت وخروج هذه القيم في ناتجنا بقيمتها السالبة، فنصبح عالة ومرضًا إضافيًا يضاف إلى ما يعانيه مجتمعنا بدلًا من أن نكون منارة للتغيير والرقي، ولذلك لا بد لنا بلغة الرياضيات من ان نضيف القيمة المطلقة دومًا كي نتخلص من القيم السالبة ونتعلم من كل التجارب والأزمات التي تواجهنا لنرتقي، وهذه نصيحة للاستاذ غسان الخطيب من تلميذٍ وابن له، بأن يضيف القيمة المطلقة إلى أبجدياته وقاموسه، فهذه الأزمة تعتبر نزاعًا داخليًا طبيعيًا والنزاعات يمكن الوصول إلى تسوية لحلها بحيث ينتصر الجميع بها بتقديم طرفاها بعض التنازلات ويحقق الطرفان الكثير من المكاسب.
أما عن مفهومك أستاذنا الفاضل، فانك تتعامل والأزمة على أنها صراع والصراع يُعرف بأنه أزمة تنتهي بفناء أحد أطرافه، فلنكن من المتنازعين فالنزاع والخلاف فضيلة وننتصر أجمعين، ولا يجب أن نسمح بأن نكون من المتصارعين ونكون جميعًا من الأخسرين.
أما بالنسبة لقيم الجامعة ومساحة الحريّة فيها فهو في تضائل مخيف أستاذنا الفاضل، وأن أردت الدليل فإنني أتحدى أن يتم نشر هذا المقال على الصفحات الرسمية للجامعة على مواقع التواصل الاجتماعي على الأقل، والتي يعتبرها جموع الطلبة بوق الإدارة وحدها لا شريك لها، أما الراي الاخر فَحَسبُهُ أن يُقَال له كما قالت اليهود لموسى عليه السلام "اذهب انت وربك فقاتلا".