فلسطين المحتلة – قدس الإخبارية: من الذي يتوب حقّا: النظام أم الثورة؟
وكيف نتوب؟
وكيف يتوب عن وعد الهوى المحبوب؟
وكيف تتوب النار
وهي إن تابت
فسوف تذوب؟
- أغنية غنّتها فرقة العاشقين، تحكي عن عودة الثورة الفلسطينيّة إلى مدينة صور بعد رحيل الفدائيين عن لبنان -
هكذا مرّت أيام الأسبوع الماضي: كنا نتردد بين مستشفى "روتشيلد" في حيّ الهادار في حيفا وبين معتقل الجلمة الواقع جنوب-شرقيّ المدينة، بعضنا يحاول الدخول إلى القسم الذي كانت تعالج الأسيرة الفلسطينيّة هبة اللّبدي فيه، ويشتبك بالحراسة والبوليس الصهيونيّ الذي يحاول طرد الّناشطين من المستشفى، وبعضنا يتظاهر أمام مركز الاعتقال المخابراتيّ في الجلمة، حيث تحتجز هبة، الّتي أعلنت إضرابها عن الطعام ضد اعتقالها الإداريّ.
بعد مراحلٍ من قصور التفاعل الجماهيريّ والإعلاميّ عن التّضامن مع قضيّة الأسرى، تمكّن إضراب هبة من تحريك النّاس من جديد ووصل إلى عناوين نشرات الأخبار، وبات يذكرنا بالإضراب التاريخيّ الذي أطلقه خضر عدنان، والحراك الشعبيّ المتضامن معه في أيام التفاؤل الكبير الّذي ساد في بداية الربيع العربي...
برزت، من ضمن فعاليّات التّضامن، سلسلة مظاهراتٍ انطلقت بالتّزامن في أكثر من عشرة مواقع مختلفة في فلسطين والشتات، وذلك يوم الخميس 31-10-2019، بدعوةٍ من "طالعات" – الحراك النسويّ الفلسطينيّ الذي فتح آفاقًا جديدة للعمل النضاليّ الجماهيريّ عابرًا الحواجز والحدود مستهدفًا التصدّي للاضطهاد، ليس فقط بوصفه احتلالًا، ولكن بأشكاله المختلفة.
كنّا نتساءل خلال هذه الأيام، إن كانت مظاهرة "طالعات للأسيرات" ستقام أمام المستشفى أو على أبواب السجن، وكيف سيتم إعلام المشاركات والمشاركين في اللّحظة الأخيرة، (هذا في ظل احتماليّة نقل هبة بين الموقعين في أيّة لحظة) وفي نهاية المطاف، عمّمت منظَّمات المظاهرة أنها ستقام في ساحة الحناطير في "البلدة التحتى" من مدينة حيفا، أيّ في موقع "باب يافا" التّاريخيّ لقصبة مدينة حيفا القديمة، التي هدمها الصهاينة سنة 1948.
* * *
أعادنا اختيار موقع المظاهرة هذا إلى جولة سابقة، لم تغب عن أذهاننا بعد، وهي جولة احتلت موقعًا هامًا في سلسلة الصراع المستمر بين الحركة الوطنيّة في حيفا وبين سلطات القمع.
جرت العادة أن تنظّم الحركة الوطنيّة هنا وقفاتها ومسيراتها، داخل الأحياء العربيّة أو على أطرافها، في المواضع التي تشكّل كثافة الوجود السكانيّ العربيّ نوعًا من الحاضنة الحامية لتحرّكاتها. ولكن، في شهر أيار-مايو 2018، ومع تزايد أعداد ضحايا مذابح الاحتلال ضد المشاركين في مسيرات العودة في غزة، وبعد سلسلة مظاهرات تضامن مع غزة المحاصرة في عدة مواقع، اختار منظّمو مظاهرة الحراك في حيفا موقعا مميزا في الثامن عشر من ذلك الشهر، حيث حددوا موضع انطلاق المظاهرة في شارع يافا بالقرب من ساحة الحناطير. وما من شكّ بأن اختيار هذا الموقع غير التقليدي، في منطقة تسعى بلديّة حيفا إلى إعادتها بوصفها القلب النابض للمدينة، كان من ضمن العوامل الّتي دفعت الشرطة والقوات الخاصة إلى الاستنفار ومحاصرة القادمين للمشاركة في المظاهرة والاعتداء عليهم وقمعهم واعتقال العديد منهم واستعمال القوة المفرطة خلال هذه الاعتقالات (ولاحقا، ضد المعتقلين داخل مركز الشرطة).
الجدير ذكره أن القمع العنيف للمظاهرة قد تسبب في تغطيتها اعلاميًا محليًا وعالميًا وزاد من تعاطف الجمهور العربيّ الفلسطينيّ مع نشاط الحراك وقد تبعت هذه المظاهرة عدة مظاهرات كبيرة أمام محكمة المعتقلين وفي الحيّ الألمانيّ، وقد حيّا متظاهرو غزة الأبطال معتقلي حيفا وحركتها الوطنيّة من خلال إطلاق اسم "جمعة من غزة إلى حيفا" على أحد أيام مسيرات العودة المجيدة. لكن القمع الوحشيّ لمظاهرة حيفا في ذلك اليوم انحفر في وعي المتظاهرين، وجعلهم يترددون عن العودة إلى الموقع الذي طُحنوا فيه في ساحة الحناطير.
* * *
هنا ينبغي علينا التوقف للحظة
إن نتائج اشتباك ما، في أيّ ظرف، لا تحسمها بالضرورة موازين القوى الظاهريّة المجرّدة، (مثلا من خلال التساؤل حول "من قام بضرب من؟").
في مثل تلك المرحلة، في هذا النوع من الاشتباكات، لن يكون بوسعنا أن نقدم تقييمًا نهائيًّا لحدثٍ ما لحظة انتهائه. إننا في مثل هذه الظروف قد نحتاج إلى رؤية تأثير الحدث على تسلسل الأحداث التالية، لكيّ نتمكن من تقييمه.
بناءً على هذه الرؤية طويلة الأمد، الواثقة بمستقبل تصنعه الجماهير، رفضتُ، ولا أزال أرفض، تقييم "الربيع العربي" بالاعتماد على محصلة سنواته الأولى، وأرفض المشاركة في دفن الربيع العربيّ وهو ما زال حيّا ينزف. كما أرفض مقولة أن ربيع الديمقراطيّة قد مات، وبأن الشعوب قد غابت، وشق الساحة وتقسيمها بين تدخلات ومؤامرات ورجعيّين وعسكر. وها نحن في 2019 نشهد العودة المباركة لرياح الربيع بقوة متجددة إلى بلدان مختلفة منها العراق ولبنان والجزائر والسودان.
يقول المنطق بأنه من الطبيعيّ والمتوقّع أن يكون ردّ المؤسّسة، والمستفيدين من النظام، والطبقات الحاكمة، عنيفًا تجاه المطالبين بالتغيير. كنا نعلم جميعًا بأن هؤلاء يملكون ترسانات الأسلحة والتنظيم العسكريّ ولا تنقصهم الإمكانيات غير المحدودة لإنفاذ القمع تجاه التحركات المدنيّة العزلاء. كما لا تنقصهم البنية التحتية (النفسية والمنظوماتيّة) في فرض الرقابة على المجتمع. ومن الطبيعيّ أيضًا أن يقف عنف الثورة المضادة، وهول الدمار والجوع والقتل، (وهي ردّة الفعل الأوّلية والمتوقّعة من جانب الطغاة) رادعًا أمام تحرّك الشعوب في بقيّة المواقع. لكن هذا لن يعني بالمطلق أن الثورة المضادة قد انتصرت.
مع تحرّك الشعوب مجدّدًا، في دول عديدة، ثبت بشكلٍ أوسع أن مخرجات قمع الربيع العربيّ ليست هي نهاية الطريق. لقد شكّلت التجربة المأساويّة في سوريا رادعًا متبادلًا، حيث امتنع كل طرف من طرفيّ الصراع من الوصول إلى مرحلة التدمير المتبادل. وبعد سنوات، بتنا نلفي إلى مشهد آخر يقع في المنطقة: سقوط حكم عمر البشير في السودان، وتشكيل حكومة تشارك فيها قوى التغيير، ليمثّل خير إثبات على أن قوة الحراك الجماهيري ناجعة في وجه نظام لم يتردد على مدى التاريخ في ارتكاب أقذر الجرائم.
* * *
نعود الآن إلى ساحة الحناطير، حيث تجمّع مساء الخميس حوالي 150 من ناشطات حراك طالعات ومعهنّ ناشطات وناشطي الحركة الوطنيّة في حيفا، حاملين صور هبة اللّبدي وشعارات التأييد للأسرى.
لم نلحظ تمركزًا كبيرًا لقوات الشرطة، كما لم يكن هنالك وجود ملحوظ لعسكر الوحدات الخاصة في الشوارع. بل إن البوليس لم يتدخّل حتّى في مسار المظاهرة حين سار المتظاهرون على أسفلت شارع حيفا-عكا المركزي، وواصلوا نحو شارع البنوك، مغلقين أحد أهم شرايين المدينة أمام حركة السّير، مرورًا بشارع "الاستقلال"، الشّارع الرئيسيّ الواصل بين شرقيّ المدينة وغربها، لتعود المسيرة إلى ساحة الحناطير، من دون أن تتنطّح قوات القمع للتعرّض للمتظاهرين.
لقد أثبتت هذه المسيرة أن شرطة حيفا قد تعلّمت درسا من أحداث التّضامن مع غزة في أيار 2018. لقد أدركت الشرطة أن كلفة القمع العنيف للمتظاهرين كانت أكبر من كلفة السماح بمسير التظاهرة من دون قمع. وقد تمكنت مبادرة "طالعات"، إلى جانب رسالتها الرئيسيّة المتمثلة في إيصال رسالة التّضامن والتلاحم للأسرى، أن توسّع من هوامش العمل الوطني في حيفا من جديد.
هكذا، يمكن لنا أن نتعّلم، من خلال مظاهرة طالعات، بعد عام ونصف، من فينا الذي "باس التوبة" أهو نحن، أم قوّات القمع ومن يقف خلفها