ليس المهم في قراءة تصريحات محمود عباس الأخيرة في المنتدى الاقتصادي العالمي للشرق الأوسط إثبات اعترافه بالتنسيق الأمني، أو إدانة براءته من (ثقافة) أسر جنود الاحتلال لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين، وليس عجيباً أن يقول: "خلال عام 2012 وضعنا يدنا على 96 جنديًا "إسرائيليًا" بسلاحهم، وبعد عشر دقائق كانوا في بيوتهم معززين مكرمين. وأي "إسرائيلي" يدخل الأراضي الفلسطينية أهلاً وسهلاً به".
كما ليس مهما اكتشاف أن مشروع السلام الاقتصادي ماضٍ رغم كل شيء، وأنه لا فسحة معه لأي شكل من أشكال مواجهة الاحتلال، وأنه يعني ببساطة أن يبيع الفلسطيني كرامته وماء وجهه في سبيل تدفّق الأموال عليه، وأن يتم إرغام قيادة السلطة على العودة للمفاوضات وفق المقاسات الأمريكية للسبب ذاته؛ أي حتى لا يجابه الفلسطيني بالحصار إن فكر في خيارات بديلة!
ولكن المهم البحث في الأسباب التي تدفع عباس وسلطته للاستهانة إلى هذه الدرجة بثقافة المقاومة في الوعي الجمعي الفلسطيني وبقيمة تحرير الأسرى، وعن دوافع تلك الجرأة في التباهي بمشروع التنسيق الأمني مع الاحتلال دونما مواربة!
يتحدث عباس بثقة مطلقة عن جانب إنكار المقاومة ثقافة وفعلا، ويصافح أعداءه (هذا ليس جديدا كذلك)، ويعوّل على رغباتهم بالسلام، يفعل ذلك وكأنما قد اطمأن تماماً إلى أن الفلسطيني باتت خياراته مرسومة باتجاه واحد هو المشير للمفاوضات والتسوية وتمييع الثوابت، ولا سبيل أمامه للانحياز لبديل آخر مضاد، حتى وإن رغب به. أو لعلّ حجم الإغداق الأمريكي هذه المرة على خزينة السلطة قد أسال لعاب قادة السلطة ومعه عقولهم، فلم يعد يعنيهم الحفاظ على شيء من تماسك صورتهم (الوطنية) في اعتبار الجمهور، بل تقرير أمر واقع وفق ما تمليه اشتراطات ذلك التمويل، ورتل الوعود الاقتصادية الأخرى التي بشّر بها كيري. إذ يبدو أن أكذوبة (التنمية) للضفة الغربية وشعبها ما زالت ذات بريق سحري في عقول قادة السلطة، ولا زالت قادرة على تحويل (التسوّل) إلى قيمة عليا ومصلحة سامية يهون دونها أي شيء!
يبالغ محود عباس وكذا سلطته في الرهان على صمت الشارع الفلسطيني ولامبالاته تجاه جميع التنازلات، ويبالغ حين يصدّق التقارير التي تبيّن له أن شعبية حركة فتح والسلطة لم تتأثر في الضفة الغربية رغم حجم الإخفاقات السياسية والاقتصادية والانتهاكات الأمنية. ذلك أن الشعب لم يتح له أن يقرّر بعيداً عن سوط الترهيب وابتزازه في لقمة عيشه، ولا أن يقول كلمته في ظروف صحيّة غير خاضعة للضغط والمساءلة.
أن تحصر خيارات الفلسطيني اليوم بين نبذ المقاومة أو الجوع، وبين التنسيق الأمني أو الحصار، فهذا حال لا يمكن أن يدوم، ولا أن يشكل أرضية تصلح للمراهنة على إفرازاتها، فهي في أحسن أحوالها مجرد مرحلة شاذة لن تلبث أن تنهي عمرها الافتراضي، ليعود للبوصلة اتجاهها الصحيح. والرعاية الأمريكية لأي طرف فلسطيني مرتبطة فقط برضاها عن جهوده في سبيل أمن كيان الاحتلال، وكلّ ما يمكن أن تقدمه مجرد مسكّنات لإطالة مرحلة الجمود أو استئناف المفاوضات الماراثونية العقيمة، وهو ما يمدّ قيادة السلطة بذخيرة إضافية للدجل على الفلسطينيين عبر ادعاء خوضها غمار معركة السلام وبناء الدولة!
ملخص ما قاله عباس للفلسطينيين هو ألا تحلموا أكثر مما يجب، ولا تتوهموا إمكانية زوال إسرائيل أو تحرير أسراكم بالمقاومة، أو طرد المستوطنين بالرصاص. فالأمر لأمريكا من قبل ومن بعد، وبمقدار ما تريد أن تنعم عليكم من حرية أو أموال، ومن مساحة للعيش ومنسوب للتطوّر!
ولا عجب من كل هذا، فكلمته كانت ضمن فعاليات المؤتمر الاقتصادي العالمي للشرق الأوسط. أليس هو صاحب نظرية "رغيف الخبز أهم من الحرية"؟!