ستة قضايا مركزية أجلها اتفاق أوسلو الموقع قبل ربع قرن هي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود –والمياه باعتبارها جزءاً من نقاش الحدود والسيادة- والعلاقات مع دول الجوار.
اليوم وقد مضى ربع قرن على الاتفاق وعلى النهج الذي أوصل إليه وعمل بمقتضاه، لم تعُد مساءلة أوسلو ومشروعيته قضية تتعلق بمناقشة المآلات والمستقبل، بل بات أثره واقعاً ملموساً يشكل حال فلسطين وقضيتها، لا مفر اليوم من أن نتوقف عنده لنجيب سؤال الجدوى بما هو ملموس؛ فماذا حقّق أوسلو؟ وهل كانت الوعود التي حملها حقيقةً أم سراباً؟ على مستوى القدس، وبعد ربع قرن من التفاوض تحت سقف "الراعي الأمريكي" ها هو اليوم يصبح شريكاً معلناً وسافراً في إضفاء المشروعية على الاحتلال الصهيوني للقدس، ويُعلن افتتاح سفارته على أرضها، ومن ثم يقطع التمويل الذي كان يدفعه لمستشفياتها العربية.
يقف المسجد الأقصى اليوم مهدداً بتهويده وتهويد محيطه، وبافتتاح مدينة سياحية متكاملة من الحفريات تحته. يُمنع أهل غزة والضفة من الوصول إليه، وتطول قائمة الممنوعين من دخوله بأمر الشرطة الصهيونية. باب الرحمة فيه والساحات مقابله مهددة بالتقسيم المكاني، ونقطة مراقبة صهيونية دائمة تقوم فوقها.
تسريبات أملاك الكنائس لم تتوقف، ونزيف هجرة المسيحيين العرب منها ما زال يتفاقم، وأقيمت في المدينة مستوطنتان عملاقتان بعد أوسلو هما رامات شلومو شمالاً وهارحوما جنوباً.
باتت القدس اليوم مهددةً أكثر من أي وقتٍ مضى، أما اللاجئين فقد أعلن راعي عملية السلام ذاته اعتباره قضيتهم منتهية، وشرع بتجفيف تمويل وكالة الأونروا والقضاء عليها، أما اللاجئون فباتوا أبعد عن فلسطين إذ استنزفت الهجرة إلى الشمال فلسطينيي سوريا ولبنان تحت وطأة الصراعات الدامية والحرمان من الحقوق، أما لاجئو الأردن فها هم أبعد ما يكونون عن الشعور بأن مشروعاً فلسطينياً ما يشملهم أو يضمهم أو يتناول قضيتهم، رغم أنهم كتلة اللاجئين الأكبر وأن عددهم يوازي عدد فلسطينيي الضفة الغربية.
علاوة على ذلك كله، فقد بات اللاجئون جميعاً في نظر القيادة الفلسطينية مجرد "جاليات" اغتراب، وكأنهم خرجوا من ديارهم بحثاً عن عقود عمل. لقد انتهى أوسلو إلى استسلام القيادة الفلسطينية على مستوى الرواية استسلاماً تاماً قبل أن تبدأ تصفية قضية اللاجئين بسنوات.
في كل عام من عمر أوسلو كانت مستوطنة جديدة تُبنى؛ 24 مستوطنة لم تكن موجودة استُحدثت، و97 بؤرة استيطانية. مستوطنو شرق القدس تضاعفوا 150% عن عددهم الذي كان في 1993، أما إذا نظرنا للصورة الأكبر فمستوطنوا الضفة الغربية بما فيها القدس كانوا 269 ألفاً عام 1993، واليوم عددهم 637 ألفاً.
تضاعف العدد 240% عن الأصل، وباتت مستوطنات التلال الريفية المتناثرة مدناً تقام فيها الجامعات والمستشفيات كما هو الحال مع أريئيل في نابلس وموديعين عيليت غرب رام الله.
الجدار فرض حدودَ الضفة من جهتها الغربية، والمناطق العسكرية عل امتداد غور الأردن من الجهة الشرقية، أما كتلة أدوميم التي يجري التحضير لضمها للقدس بإخلاء الخان الأحمر فتقطع كل الطرق الواصلة بين شمال الضفة الغربية وجنوبها، وغزة فُصلت جغرافياً وسياسياً عن الضفة.
حل الدولتين اليوم أبعد ما يكون عن إمكانية التطبيق الآن أو في المستقبل القريب، والجغرافيا التي كان يُخشى من فصلها إلى قطعتين هما الضفة وغزة أصبحت اليوم خمس قطع: قطاع غزة وشمال الضفة وجنوب الضفة والقدس والأغوار، لكل منها مصير مختلف وواقع سكاني وجغرافي فُرض على أرضها.
ضع جانباً الحديث عن 78% من أرض فلسطين وضعها نهج أوسلو خارج التفاوض من اللحظة الأولى، المياه في الضفة الغربية بقيت كما كانت قبل أوسلو، تحت السيطرة والتصرف الصهيوني التام، أما العلاقة بالجوار فنتنياهو اليوم ينظّر للسلام الإقليمي، وللتسوية مع العرب قبل التسوية مع الفلسطينيين باعتبارهم أضاعوا الفرصة ولا يريدون السلام، وبعض الضغوط لتمرير التصفيات بحق القدس وحق العودة تتواتر الأخبار عن أنها تأتي من عواصم عربية كبرى تتطلع إلى التحالف مع الصهاينة في بناء اصطفافٍ جديدٍ موهوم.
فشلٌ على كل الجبهات، ليست هناك جبهة واحدة يمكن أن يدعى أصحاب أوسلو فيها الإنجاز، حتى الإضافة الوحيدة التي لطالما كانت محل نقاش هي إيجاد قاعدة للمقاومة عبر الأجهزة الأمنية فلم تكن مقصداً طبيعياً لأوسلو، وحينما حصلت مع انتفاضة عام 2000 جاءت بفضل رجال تساوقوا معه وأيديهم على البندقية تتحفز للحظة انتهائه؛ لم يكن نهجُهم نهجَ أوسلو ولا نهجَ مهندسَها، بل كان نهج الخنادق الذي عرفوه في بيروت وعمان أو في التجارب الفدائية في الضفة، أو كان نهجَ حركاتٍ فلسطينية جديدة دخلت المشهد وامتشقت السلاح وحملت مشروع المقاومة وكان أوسلو يلاحقها وينكل بأبنائها باعتبار فعلهم "إرهاباً"
. وأياً كانت نتيجة النقاش، فقد ضمن الجنرال الأمريكي دايتون برعاية القيادة الفلسطينية عدم تكرار هذا السيناريو، وعلى مدى 11 عاماً ندرَ أن وُجد من خرق رهان دايتون عليه بأن يكون "فلسطينياً جديداً".
لم يكن سقوط أوسلو فجوةً بين النظرية والتطبيق، فمن أصل ربع قرن من عمر أوسلو كان مهندسه الأكبر رئيساً للسلطة لنصف هذه المدة؛ المُنظِّر طبَّق نظريّته بنفسه وبصلاحياتٍ كاملة، وانتهى لهذا الفشل المربّع لأن أوسلو اتفاقية ونهجاً لم تكن إلا كارثةً كبرى، وكل الوعود والبريق لم تكن إلا لإخفاء هذه الحقيقة، ولم يكن للزمن سوى أن يوصلنا إلى النتيجة الوحيدة المنطقية، فكانت أوسلو بحق نكبة فلسطين الثانية.
لقد آن الأوان ومنذ زمن أن تسقط أوسلو شعبياً، وأن لا يبقى أي نقاش حول قيمتها ومشروعيتها وجدواها لكل من كان له عقل، وأن نبدأ في بحث حلول ما بعد أوسلو وتطبيقها، والطريق الوحيد نحو محو أثر نكبة فلسطين الأولى عام 1948 هو البدء بإسقاط نكبة 1993 التي صُنعت بأيدينا.