"بيني وبينك، هذي عملية من تخطيط المخابرات الإسرائيلية، لكن وقفة المقدسيين هي التي أنقذت الموقف" قال أحدهم لصديق له، في حوار دار في المسجد الأقصى المبارك، معلّقاً على عملية الجبارين الثلاثة التي جاءت قبل عامٍ بالضبط من كتابة هذه السطور، لتنطلق على أثرها هبة باب الأسباط التي دارت على أبواب المسجد الأقصى المبارك، ومن أجل حماية حق إدارته إسلامياً خالصاً، بعد أن نصبت قوات الاحتلال بوابات إلكترونية على أبوابه.
قبل سنواتٍ قليلة من ذلك الحوار ومن تلك العملية، كنت جالساً في محاضرة عامة أستمع إلى شيخ من مشايخ القدس، وأحد رموزها الإعلامية: "الاحتلال يخطط اليوم لعملية مفتعلة في المسجد الأقصى المبارك أو على أبوابه كي يبرر عدواناً كبيراً على الأقصى ويفرض فيه التقسيم المكاني"... كانت تلك الجملة شاذة وصادمة ومعاكسة للحقائق التاريخية جميعها؛ فإذا اعتبرنا أن تقسيم المسجد الإبراهيمي شكّل النموذج التجريبي الذي يسعى الاحتلال إليه في الأقصى؛ فقد كانت شرارة التقسيم هي عدوان على مصلين عزّل أخذ شكل المجزرة، ارتقى فيه 29 شهيداً، فأين العمل المقاوم المزعوم الذي "برَّر" به الصهاينة وضع يدهم على المسجد؟ ماذا عن مجزرة الأقصى عام 1990، أين العمل المقاوم الذي "بُررت" به تلك المجزرة؟ ألم تكن المجزرة نتيجة عدوان قائم على معتقداتٍ دينية بوضع "حجر الأساس للمعبد"؟ ألم يجد المقدسيون أنفسهم حينها لا يملكون إلا أجسادهم وحجارةً في أيديهم يدافعون بها عن مقدسهم وقِبلة حبهم وانتمائهم لهذه الأرض؟ ماذا عن هبة النفق عام 1996؟ هل كان ثمة عمل مقاوم أطلقها؟ أم أطلقتها مبادرة الحكومة الصهيونية إلى العدوان بافتتاح شبكة أنفاق الحائط الغربي تحت الأقصى في مخططها -المستجدّ حينئذٍ- للسيطرة على "الفضاء التحتي" للأقصى؟ ماذا عن انتفاضة عام 2000؟ هل كان عملٌ مقاومٌ هو ما جاء بأريئيل شارون لاقتحام الأقصى وسط آلاف من حرسه؟ أم كان هو المبادر إلى ذلك بحثاً عن الانفجار وعن محاولة تثبيت حقيقة سياسية صهيونية جديدة تجعل الأقصى في مركز الفعل السياسي للدولة الصهيونية؟ أوليست تلك الحقيقة مستمرة حتى يومنا هذا؟ ماذا عن مهند الحلبي يا صديقي؟ هل تذكر ما الذي جاء به من البيرة إلى البلدة القديمة للقدس بحثاً عن هدفٍ لسكّينه؟! ألم تكن مبادرة الحكومة الصهيونية لإغلاق الأقصى تماماً في وجه المسلمين خلال الأعياد اليهودية هو ما جاء به؟ ألم تكن محاولة فرض التقسيم المكاني والعدوان على المرابطات على أبوابه هي الباعث؟
في كل تلك المناسبات من الذي كان يقف في خانة الفعل؟ ومن الذي كان يقف في خانة رد الفعل؟ لقد كانت المقاومة الفلسطينية دوماً هي ردّ الفعل على العدوان، بل إن الثورة على المحتل بطبيعتها هي رد فعل، فلولا الاحتلال لما كانت الثورة، ولولا عنف المستعمِر واستخدامه لكل أشكال القوة النارية والعنف الوحشي في استباحته لأهل الأرض المحتلة لما كان عنف الثورة ولا نار الثوار، ولعبة المحتل هي أن يقنعَنا بالعكس، بأنه لا يلجأ إلى العنف إلا إن نحن لجأنا له، وكأنه احتل هذه الأرض بالقطن والريش، وطرد أهلها بجلساتٍ حوارية!
في واقع الأمر حتى في محاولته لإيصالنا لهذا الاستنتاج فهو لا يملك وسيلة إلا العنف الوحشي، فهو يتعمّد رد فعلٍ وحشي على أفعال المقاومة كي يقنعَنا أننا أفضل حالاً من دونها، وحين يصل بعض أفراد نخبتنا لهذا الاستنتاج فهم لا يصلونه بالعقلانية؛ بل يصلونه بـكيّ وعيهم، إذ يصبح تجنب المزيد من عنف المحتل يتطلب تبني منطق سحب الذرائع. الغريب فعلاً هو أن يتسلل هذا المنطق عميقاً إلى متحدثين ورموز يعلنون انتماءهم لفكرة المقاومة، ويسهمون في صناعة وعي جمهورها، ثم يحاولون أن يرسموا في وعينا جميعاً أن العمل الفدائي من أجل المسجد الأقصى مدانٌ بالضرورة وساقط من الحسابات بالمطلق، فإذا ما اقتضت الضرورة اللجوء إليه، أو بادر إليه أفراد رأوا فيه رداً مناسباً، كانت النتيجة الطبيعية إدانته وإدانة شهدائه؛ تُرى هل اطّلع أولئك المتحدثون على وثائق للاحتلال تفصح عن نواياه لدفع عمل مقاوم ضده في الأقصى؟ أم هل يملكون وسيلة بديلة عنه لحماية هذا المقدس الواقع في عين الاستهداف الصهيوني كي يتجرؤوا على إسقاط العمل المقاوم من حساباتهم وحسابات جمهور هذا الشعب؟ أم أننا جميعاً نسقط ضحايا خطاب سياسي افتراضي ربما امتلك حسن النية لكنه لا يمتلك أدنى حساب للمآلات والمصالح؟
نعم، لقد كانت المقاومة في حقبة من حقباتها – وليس بالمطلق - تتجنب المسجد الأقصى وبواباته كهدفٍ وساحة للعمل المقاوم، كان ذلك في عهدٍ لم يكن فيه تهويد الأقصى قد وصل إلى أن يصبح هدفاً مركزياً للحكومة الصهيونية، وفي عهدٍ كانت المقاومة المنظمة تملك قراراً بتحديد الأهداف والأدوات والوسائل. اليوم وقد تبدلت الظروف، وبتنا جميعاً عالة على أفرادٍ مبادرين يخططون وينفذون ويدفعون الثمن منفردين، فهل سيستشرني أو يستشيرك صاحب المبادرة القادمة قبل أن يختار هدفه؟ وحينها ما الذي يجرّه تجريمهم الافتراضي سوى خلق اغترابٍ بين المقاوم وجمهور شعبه؟ وأي جرأة على البهتان نرتكبها حين نجرؤ على تجريم مقاومٍ ربما يكون مضى إلى ربه على أصفى ما تكون النية؟
أما منطق سحب الذرائع بذاته فقد بات غنياً عن محاولة هدمه، فهو العقيدة السياسية التي تستند إليها القيادة الفلسطينية الحالية في إدارتها للصراع، فهل منع سحب الذرائع تغول الاستيطان؟ أم منع استباحة عائلة الدوابشة أو الفتى محمد أبو خضير؟ أم أن سحب الذرائع حمى الأقصى من تصاعد العدوان عليه؟ اليوم تدير الأوقاف الإسلامية في القدس معركتها مع المحتل على هوية الأقصى بمنطق مشابه، فهي امتدادٌ لنظام رسمي عربي، وعقيدة سحب الذرائع هي العقيدة السياسية لدول "الاعتلال العربي" جميعاً وليست عقيدة القيادة الفلسطينية وحدها، فهي كانت ترى في المرابطين والمرابطات سبباً لتأجيج المواجهة لا ردّ فعلٍ على عدوان المحتل، وكانت تحاول تجنب تبني فعلهم بل كانت ترجو تثبيطه وتتبنى في خطابها الدعوة إلى "وقف التحريض"، فلمّا غيّبهم ضرب مؤسساتهم وضرب الحركة الإسلامية باتت الأوقاف عارية بلا غطاء يحميها من عدوان الاحتلال، فاضطرت إلى توسيع طاقم حراسها، لكن ها هي اليوم تمنعه من خوض المواجهة وتخرجه من مواقع الاقتحامات الصهيونية سحباً للذرائع؛ لكن السؤال الذي يبقى بلا جواب: إذن من سيحمي الأقصى وكيف سنحميه؟ ألا يمسي منطق سحب الذرائع حينها خدمةً للمحتل إذ يجعل ضحيته أكثر استكانة وأقل ممانعة لافتراسها واغتصاب حقوقها؟ ألا يمسي حينها التفكير بمنطق سحب الذرائع إيماناً بالحقيقة ونقيضها في الوقت عينه؟ حين تدين الشهداء الجبارين الثلاثة وتقف في صفوف المرابطين المعتصمين في باب الأسباط؛ هل تكون تعلمت درس الانتصار في باب الأسباط بحق؟ أم تكون تقطع الطريق أمام تكراره؟