غزة- خاص قُدس الإخبارية: حين رأته ممدًا أمامها في حضرة الوداع مدّت يديها الصغيرتين صارت تضربه على وجهه بخفة كما اعتادت أن تفعل صبيحة كل يوم كي توقظه من نومه، تريده أن يشتري كعكة الخبز ويفتتها لها قطعًا صغيرة في طبق الحليب، وبعد ذلك يسرح شعرها الفوضوي، يحلّق بها إلى السماء يرفعها بيديه عاليًا ثم يعود مرة أخرى ليحتضنها فيرسم قبلته على خديها الموردين، بينما تمارس معه لعبة البكاء الكاذبة فهي الابنة الصغيرة المدللة وهو الأب المهزوم أمام دموعها.
هذه المرة، فقدت الأمل في ايقاظه فبدت تشُّد بملابسه علّه يصحو ويذهب معها عنوة إلى البقالة المجاورة لمنزلهما؛ ليعطيها الحرية الكاملة في شراء ما تشتهيه من سكاكر دون أن يمنعها، أو لربما ترغب بأن يفتح عينيه ليعلمها تلوين العلم الفلسطيني كما اعتادت سابقًا.
رغم كل المحاولات لم يستيقظ أباها الثائر فقد رحلت روحه كخيمة عانقت السماء، وبقي الجسد ينتظر أن يحمله رفاقه على أكتافهم ليوارى الثرى، أرادت طفلته أن تخطفه من الموت لكنها لم تنجح، فملأ صوت بكاها المصحوب بكلمة "بابا" أرجاء المنزل، علّه يستشعر بها، لكنّه ذهب ولن يعود تاركًا لها حضوره المؤلم على شكل صورٍ ألصقت على جدران المنزل وبين أزقة مخيمه جباليا شمال قطاع غزة حيث يسكن.
ميار طفلة العامين من عمرها عايشت الفقد الأبوي مبكرًا وأصبحت يتيمة الوالد الشهيد ثائر رابعة (30 عامًا)، الذي أطلقت صوبه قوات الاحتلال النار بشكلٍ مباشر يوم الجمعة بينما كان مشاركًا في مسيرة العودة الكبرى شرق قطاع غزة، كان يحلم بالعودة لقريته "حمامة" التي لجأ منها أسلافه السابقين، لكنّه استشهد قبل أن يعود مورثًا طفلته حلم العودة.
منذ اقتراب تاريخ مسيرة العودة كان ثائر على جهوزية تامة وقام بتحضير أدواته التي كان يستخدمها بمحراب ثورة الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال الاسرائيلي والتي تسمى "مقلاع" فهي مكونة من خشبتين على شكل الرقم سبعة، مربوط بهما قطعة مطاطية قادرة على حمل الحجر الصغير وقذفه على الجنود.
صبيحة يوم الجمعة أول أسابيع مسيرة العودة الكبرى استيقظ ثائر مبكرًا، وأخذ يوقظ طفلته ميّار ويلاعبها فلم تتوقف عن البكاء في تلك اللحظة، علّها شعرت بأنها طقوس الوداع. الأمر الذي أثار دهشة زوجته فهي لأول مرة ترى الحزن في عيون زوجها وهو يداعب طفلته، فقد اعتادت عليه يحملها وترفرف ضحكاتهما عاليًا، كان على عتبة بيته نادته قبل خروجه لا تذهب، لكنه لم يناقشها، ونزل لشقة والدته المجاورة لهم وألقى عليها سّلام الختام وطلب منها الدعاء له، فكان آخر ما تفوّه به: "سلام يمّا إدعيلي".
دقت عقارب الساعة الثانية ظهرًا ودق معها قلب والدة ثائر، فنجلها الذي خرج باكرًا لم يعد، بدى الأمر مربكًا لها وأثار قلقها أكثر عندما حاولت الاتصال على هاتفه فوجدته مغلق، تجمد الدم في عروقها فقد أرهقتها ساعة الانتظار ودار التفكير برأسها كخلية نحل، وبعد دقائق اتصل عليها ابنها البكر فارس ليخبرها أن شقيقه ثائر أصيب بقدميه لكنّها طفيفة، وطلب منها عدم الذهاب للمستشفى.
لم يوفقها قلبها المشتعل حرقة على ابنها فحدسها ألح عليها أنّ ابنها في خطر، ارتدت ملابسها مسرعة متجهة للبحث عنه بين أروقة مستشفى الاندونيسي شمال القطاع.
وجدت أخيرًا ابنها لكنّه ليس كما أخبروها، إصابته خطيرة وسيمكث في العناية المركزة لمدة أسبوع أو أكثر، إنه أصيب بعيار ناري متفجر في القدم تسبب بقطع في الشريان المغذي للدماغ، ولم تتمكن الإمكانات الطبية في القطاع من علاجه لأنها غير مؤهلة لإجراء عمليات جراحية لوقف النزيف.
في الوقت ذاته كان من المفترض أن يتم تحويله لمستشفيات خارج قطاع غزة، لكن الاحتلال الاسرائيلي رفض سفره، حتى دخل في غيبوبة كاملة، كانت الأم تدرك تمامًا أنّ ابنها ثائر لن يعود مجددًا للمنزل، وقالت في سرّها محدثة نفسها: أتمنى أن يطعمني ربي لقب "أم الشهيد"، وقد نالتها بالفعل.
لم تستغرب والدة الثائر أنّ ابنها أصبح شهيدًا فهي كانت تعرف مسبقًا عندما رأته بالحلم طائرًا تفوح منه رائحة المسك.
أما زوجته فقد اختنقت الحروف في حلقها وتلّوت الدموع التي صرخت ألمًا على فراق شريك عمرها، فهو الذي شاركها الحلم ووعدها على مضي الدرب سويًّا ولن يتركها وحدها تخوض معترك الحياة؛ لكنه لم يوفٍ بوعده.
قبل خمس سنوات التقي ثائر بزوجته شيرين العشرينية في أحد أروقة مستشفى غزة بينما كانت ذاهبة لتزور والدتها، ومنذ تلك اللحظة بدأت قصة حبهما فأثاره حبها وأصر على الزواج بها، وفي عام 2004، كانت الحرب على قطاع غزة قد أوشكت على الانتهاء فتزوجها دون أي مراسم احتفال، احترامًا لأرواح الشهداء الذين سقطوا آنذاك.
وأعلن الثنائي بداية رحلة زوجية معًا تقول زوجة الشهيد ثائر، "لم يكن ثائر زوجي بل كان صديقي وشريك حياتي فلم أرَ منه أي لحظة حزينة فقد عهدته مرحًا في كل مرّة كنت أغضب منه، كان يقابلني بابتسامة تمحو كل كدرٍ على الفور"، ولم تعش الزوجة شيرين في كنف حبيبها سوى خمسة سنوات فقد تركها تختزل ذكراهما الجميلة وحيدة تاركًا لها أمانة وهما روحان "طفلته ميار، وجنينه بأحشائها".
وكان قد أعدّ لها ذلك في وصيّته التي كتبها قبل استشهاده وحمّل فيها السلام لأبناء وطنه، والثائرون وأهله وأصدقائه ووطنه، وتركها مخفية مع شقيقته الصغرى فأظهرتها لعائلته بعد استشهاده.
تضيف زوجة الثائر مستكملة في سرد تفاصيل حياتها مع زوجها الشهيد "طيلة فترة زواجنا كنا نخطط أنا وثائر كيف سنربي أطفالنا، نحلم برؤيتهما يكبران أمامنا خاصة بعد أن أنعم الله علينا بميّار والحمل بمولود سيكون شقيقها، كنا نفكر كيف سنشرح لها وجود طفل آخر سيقاسمها حب والدها، فهي حتمًا ستشعر بالغيرة على ثائر منه لأنها كانت شديدة التعلق به حتى أنها كانت تبكي عندما يتحدث معي ويتركها تلهو مع نفسها".
قصة حب ثار وزوجته شيرين لم تنتهِ بالنسبة لها ستبقى مخلصة له طيلة حياتها، وستخبر أطفالها عن أبيهم، وستعلمهم التماثُل بصفاته، فجسده غاب لكن تفاصيل حياتهما مازالت بينهما على العهد.
عاش ثائر، اسمًا على مسمى فمنذ ولادته أسماه الطبيب بثائر وبقي حافظًا لاسمه، ثارا على الظلم، واعتقل في الثالث عشر من عمره لدى سجون الاحتلال، وأصيب أيضًا برأسه عندما كان في العشرين من العمر، وكانت نهايته أن حقق الشهادة التي عاش يردّدها على لسانه، ويتمناها في قلبه.