غزّة- خاص قُدس الإخبارية: كلُّ ركن في بيته بدا ساكنًا، صمِت الفرح وتوّسد الحزن، اختفت ضحكاته التي كانت تعلوه، وتوشحت جدرانه بالظلام، حتى وسادته، سريره الذي كان يحتضنه بات باردًا، غاب الجسد وصعدت الروح لكبد السماء، نادته مآذن الصلاة حزينة لتشييع جثمانه الذي سقط مُخضّبًا الأرض بدمه، وارى الثرى ولم يبقَ من أثره سوى قطة قماش بيضاء تفوح منها رائحة المسك.
الجمعة، الثلاثون من آذار، استشهد محمد أبو عمرو (27 عامًا) من حي الشجاعية شرق قطاع غزة، برصاص قوات الاحتلال، عقب مشاركته في مسيرة العودة الكبرى، بدأ برفقة أصدقائه الزحف نحو الحدود الشرقيّة، مع أراضي فلسطين المحتلة48، مجددين المطالبة بحقهم في العودة.
وصل محمد أثاره مشهد الجنود المتركزين بآلياتهم العسكرية فوق أرضه الذي يضنيه الشوق لها، ويحرم من ملامستها، تقدم الى الأمام قرب مسافة الصفر من السلك الشائك الذي نصبه الاحتلال كحدٍ فاصل بينهم وبين القطاع، حاملًا علم فلسطين، وزرعه على حدود أرضه، ليصنع المشهد الأخير في حياته.
عائلته قالت لـ"قُدس الإخبارية"، "هزم محمد خوفه من محتله، لأنه كان على الدوام يؤمن بأنّه "صاحب الحق"، ليجود بنفسه مؤمنًا بعدالة قضيّته الفلسطينيّة وسمو فكرته عن حق العودة، بعد أن اخترقت رصاصات الاحتلال جسده بشكلٍ مباشر وارتقى شهيدًا على طريق العودة".
الساعة الثانية عشر ظهرًا، من نفس اليوم جاء اتصال لوالد محمد يخبره أن يتوجه إلى مستشفى الشفاء وسط غزّة، لأن نجله "محمد مصاب"، لكنّه وبإحساس الأبوة كان يشعر أنّه ليس مصابًا، وأخذ يراوده إحساسٌ قويٌ باستشهاده، خاصة وأنّه سبق له أن عايش نفس التجربة قبل ثمانية سنوات مع ابنه الأكبر الشهيد "إيهاب".وعندما حضر والد الشهيد "أبو عمرو" لرؤية ابنه، سأله الطبيب أنت والد محمد؟ فكانت إجابته نعم، وقبل أن يخبره بأن ابنه استشهد، قال الوالد للطبيب "ابني راح! استشهد" قالها ثم استند مائلًا على حائط المشفى محاولًا تمالك نفسه، ذهب ليلقي نظرة الوداع الأخيرة، احتضنه بقوة ملصقًا جسده به، وهمس قائلًا له: "سلّم على أخوك يابا"، وختم وداعه بدعائه له، "الله يسهل عليك ياروحي".
بعد مرور أكثر من ثلاثة أيام على ارتقاء "محمد"، إلّا أنّ سرادق عزائه ما زالت ممتلئة بالوافدين المعزييّن لأهله، وبجوار صورته الملصوقة على الجدار المقابل لغرفة الشهيد محمد تجلس شقيقته ريهام (29 عامًا)، والتي كانت آخر من تحدث معه قُبيل ذهابه إلى مسيرة العودة وكان قد طلب منها وقتها تحضير وجبة الإفطار ليتناولانها سويّا.
تحدثنا شقيقته، "على غير عادته استيقظ الثامنة صباحًا، وكان معتادًا النهوض يوم الجمعة متأخرًا من نومه، لأنه يريد أن يستمتع بيوم إجازته، تناول محمد الإفطار، وتبادلا أطراف الحديث عن توقعاتهما لمسيرة العودة وكان يردد لها بأن جنود الاحتلال لن يدعوا هذا اليوم يمر بسلام، وكانوا قد هددّوا الفلسطينيين مسبقًا لمنعهم من الخروج"، أخذ محمد يحدق في وجه شقيقته لدقائق معدودة ثم غادر، ربما كان يشعر بأنّها ستكون النظرات الأخيرة.
أمسكت شقيقته المكلومة، هاتفه النقال بيديها المرتجفتين، فهو ما تبقى لها منه رافضة تركه وإعطائه للآخرين قائلة، "لم يمض على خروج محمد من المنزل سوى ساعتين، فيعد ذهابه انشغلت بترتيب المنزل والتجهيز لوجبة الغذاء التي يحبها شقيقي محمد، لتكون جاهزة عند عودته من مسيرة العودة، لأعتدنا كلّ يوم جمعة، أن نقضيه برفقة العائلة مجتمعين على مائدة الغذاء التي أعدّها لهم"، مضيفة "لكنّه لم يعد!".
وأضافت، "يبدو أنّ نصيبنا من الفراق مكتوب، فلم تنته لوعتنا على شقيقي إيهاب الذي استشهد بحرب عام 2008، ثم فراق والدتي التي لحقته بسبب مرض السرطان، حتى جاء اليوم لنودّع شقيقي محمد".
أحدث استشهاد محمد فاجعة كبيرة لمن حوله، فهم عهدوه طيب الخلق، ومتسامحًا منذ صغره، رغم أنّه عاش طفولة قاسية فقد اضطر لترك دراسته بعد الصف التاسع ملتحقًا بالعمل لمساعدة والده في توفير أعباء المنزل لأسرته المكونة من 16 فردًا، وبعد انتهائه من عمله كان يجلس على مكتبه ليخط بأقلامه ما يحدث معه من مواقف متنوعة، ويدرب ذاته على موهبة الخط التي يمتلكها.
عند بلوغه السادسة عشر من عمره، كبر بداخله حب المقاومة والنضال، وأراد استكمال درب شقيقه إيهاب الذي سبقه الشهادة، مثبتًا نفسه في جميع الفعاليّات والمسيرات الوطنيّة فقد كان له الوطن بمنزلة "العشق".
موهبته وحلمهولأنّ محمد عاش حياته قبل الشهادة يتيم الأم أدركت شقيقته ريهام، زيادة المسؤوليّة وقبل شهر من استشهاده ألّحت عليه بالخطوبة، فهي دائمًا كانت تحلم برؤية شقيقها عريسًا، مزيّنًا بأكاليل الياسمين وتزفه بالزغاريد.
ووفقًا لحديثها، فانها وقبل أشهر اقترحت عليه التقدم لخطبة احدى الفتيات، وكانا على موعد الشهر مع المقبل لإتمام مراسم الخطوبة؛ لكن الاحتلال، قضى على هذا الحلم، وزُفّ محمد إلى الثريا.
تستكمل ريهام حديثها عن شقيقها محمد، وتفيد بأنه كان يقضي وقتًا طويلا من يومه أمام البحر منهمكًا بممارسة موهبته التي أحبها منذ صغره وهى النحت على الرمل.
فكان أول كلمه خطها بيدها "أمي" تخليدًا لذكراها، إضافة إلى بعض القضايا الفلسطينية مثل الأسرى، الوحدة الوطنية، القدس، الحصار، وآخر ما كتبه "أنا راجع"، فكان همّه الشاغل وقتها التأكيد على حق العودة بكافة الطرق وإيصال كلمتنا ورسالتنا بالإمكانيات المتاحة.
ولقيت تلك الموهبة التي يمتلكها محمد صدى واسعًا في مدينته المحاصرة، فقٍّلة من الغزيّين يتقنون هذا الفن، وقد توسط اسمه الكثير من المواقع الاعلاميّة قبل أشهر والتي تحدثت عن إبداعه في هذا المجال، وكانت خبر استشهاده بمثابة الصاعقة التي سقطت عليهم خاصّة لمن يعرفه عن كثب.
عّلقت الإعلامية في تلفزيون فلسطين نفين أبو هربيد، والتي كانت على موعد لمقابلته في إحدى برامجها التلفزيونية للحديث عن موهبته، على نبأ استشهاد محمد عبر صفحتها على فيس بوك "استشهاد الفنان محمد أبو عمرو على يد قوات الاحتلال الاسرائيلية أثناء مشاركته في مسيرة سلمية تطالب بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين"، مضيفًة "آخر خبر كنت متوقعة أكتبه عنه لأنه كان نجم الحوارات الصحفية مؤخرًا، في الفن والإبداع وكل الصحافيين يتهافتون للحصول على لقاء معه، وكنت متفقة أعمل معه لقاء عن موهبته وأحلامه، وسؤاله عن الفن ونظرته للحياة، عن شكل المستقبل الذي سينتظره، وحضرّت جملًا وعبارات مختلفة، لكن رحمة الله عليه، ستبكيك غزة كلها يا محمد".
كانت فكرة نحت خريطة فلسطين بقراها ومدنها الحلم الذي يخطط له الشهيد أبو عمرو، لكنّه ذهب قبل أن يطبقه على أرض الواقع، اليوم جاء صديقه أسامة سبيتة ليحقق حلمه ويحيي فكرته، وقام بنحت أكبر خريطة في فلسطين، مساحتها 800 مترٍ، على امتداد الرمال من شاطئ بحر غزة.