بعد ساعات من الآن سيسيل الدم، بعض من خير دمنا، سينزفه أبناء غزة على تخوم التحصينات الصهيونية التي تحاصر القطاع وتقتل أهله، وحينذاك سينقض عليهم أصحاب الرأي لتقييم خيارهم بل والتشكيك في إرادتهم باختيار هذا المصير، وأيضا لمحاكمة المقاومة وسلاحها الذي لم يحمي "المدنيين" - وهي أسطوانة بدأت بالعزف بالفعل- وكأن هؤلاء ذاتهم سيرحبوا بخيار الحرب لو انتهجته المقاومة، ولا بأس في ذلك ولكن أيضا لا بأس من بصق بعض الحقائق في الفضاء العام.
منذ أقل من عام وبتأثير سنوات الحصار كان يبدو لي أن غزة ستختار الاستسلام، نعم فالصمود الطويل أمام سنوات الحصار، لم يكن عرضا يهدف لنيل جائزة اوسكار في تلقي القصف واختراع بدائل لمواجهة الحصار، بل كان فرصة للكل الفلسطيني، ليلتقط الرسالة التي أرسلها أهالي غزة، لقد دحرنا الاحتلال ولو جزئيا من الأرض، وهنا سنتشبث وسنقاتل، وكانت هذه الرسالة تستحق حمايتها والدفاع عنها، وحشر العدو، غزة وأهلها بالفعل بين خيار استمرار الحصار الذي سيقتلهم في كل ساعة، تتظافر معه عقوبات السلطة الفلسطينية، والطوق العربي القذر الذي امتد ليخنق غزة ويجفف منابع صمودها ويقطع خطوط سلاحها، وبين خيار الحرب وحملات القتل الجماعي بطائرات الإف 16، وحين يشهر أحدهم رصاصة لتخرق أسوار الحصار القاتل كان الرد الفلسطيني قبل الاسرائيلي يأتي ليتهم صاحبها بالسعي لتدمير غزة وأهلها.. نعم بهذه الوقاحة شهدنا جميعا من يحاصرك لقتلك يتهمك بجلب الدمار إذا أطلقت رصاصة لكسر هذا الحصار.
المعركة المستحيلة التي اختارها فلسطينيو غزة في وجه الحصار والحملات العسكرية الصهيونية المتكررة، لم تكن في لحظة خيارا منطقيا إذا ظننا أنه رهان على إلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني من غزة المنفردة المحاصرة المخذولة، كل تلك البطولة لم تكن تطلب من الآخرين أن يقدسوها أو يتغنوا بالفلسطيني المختلف في غزة والجاهز لتحمل كل هذه الأهوال من أطنان المتفجرات المصبوبة على رأسه، بل كانت تعلن خيار المواجهة والاشتباك كبديل عن مسار الاستسلام والتصفية، ولكي تحظى بفرصة ولو صغيرة في الاستمرار أو تحقيق الانتصار كانت بحاجة لمد هذا الاشتباك لأوسع مساحة ممكنة في أرض فلسطين ونقاط انتشار شعبها، كانت رسالة أن هناك فلسطين وهناك شعب سيقاتل لأجل تحريرها في كل نقطة من أرضها.
ولكن كان المطلوب أن تشهر غزة الراية البيضاء وتعلن تخليها عن المعركة، فاستمر الحصار واستمر القطاع الأوسع من سكان هذا الكوكب في إعلان "عدم جاهزيتهم" لتلقي الرسالة، وجاهزيتهم المطلقة لمحاكمة صاحبها إذا قاتل برصاصه، أو بصموده في وجه الحصار.
بضعة فتية من هذه الجموع المحاصرة اقتحموا أسوار وثكنات العدو الذي يحاصرهم، معلنين صمودهم، وأقل ما يقال عما فعلوه أنه محض خيار استشهادي، ولكنهم عادوا ليحاكمهم ذات الجمهور الصامت على حصارهم، مصرا على تجاهل حصارهم وموتهم البطيء وليتقاسم اتهامهم بـ"البطولة" أو غيرها، أو يضع تصوراته الخاصة حول تحصينات العدو حول غزة، ولكن فكرة أن هؤلاء كان يرفضون الاستسلام ويحاولون اشتقاق خيار آخر بخلاف الموت في الحرب الشاملة والموت البطيء في ظل الحصار ظلت غائبة، وستبقى غائبة حين يزحف من خلفهم مئات الآلاف ممن سيتوجهون غدا لكسر الحصار وإشهار حقهم في العودة وفي الحياة صوب تحصينات الموت المتأهبة لقتلهم.
منظمو الفعالية والقوى المختلفة تؤكد حرصها على إبقاء مسافة فاصلة بين المتظاهرين ومدافع الاحتلال، ولكن هذا محض هراء، نعلم جميعا أن المذبوحين بالحصار في غزة سيذهبون بخطوات مباشرة نحو فوهات المدافع، ليحاولوا مجددا ارتكاب المستحيل.
في خطواتهم هذه هم يحدقون في عيونكم، في خذلانكم، في خزيكم، في غيابكم، في كفركم بكل ما آمنوا به، في تنكركم لكل عذاباتهم، وحينها بإمكانكم تقييم خياراتهم من جديد او توزيع قطرات دمهم على راية الاستسلام البيضاء التي أراد الجميع منهم أن يرفعوها، فلا تنسوا محاكمتهم لأنهم لم ينزفوا دمهم ممتشقين السلاح أو كضحايا للحصار وربما سمحوا لأنفسهم باشتقاق خيارات أخرى لا تحظى برضاكم الكامل، أو لا تناسب معاييركم لدور البطل.