كنتُ، في الجزء الأوّل من هذا التقرير، قد استعرضتُ، تاريخًا موجزًا للسيطرة اليونانية على البطريركية الأرثوذكسية في القدس. وفي هذا الجزء سأتحدّث عن القضية الوطنية الأرثوذكسية منذ بدء الاستعمار البريطاني (1917-1948) وصولًا إلى يومنا هذا، بما يشمله ذلك من صفقات البيع والتأجير التي عقدها البطاركة اليونان المختلفون مع مؤسسات الحركة الصهيونية وأذرعها بدءًا من عشرينيات القرن العشرين حتى اليوم.
تطورات القضية الأرثوذكسية فترة الانتداب البريطاني
تُشكّل فترةُ الاستعمار البريطاني لفلسطين بدايةً خصبةً لمسلسل تسريب عقارات العرب الأرثوذكس إلى أذرع الحركة الصهيونية ومؤسساتها، إذ مهّدت وسهّلت السلطاتُ البريطانيةُ لتسريب تلك العقارات وبيعها بيعًا مباشرًا أو تأجيرها لفتراتٍ طويلةٍ للحركة الصهيونية.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وَجَدَتْ حكومةُ الاستعمار البريطاني البطريركيةَ اليونانيةَ في حالةٍ مُعقّدةٍ من الصراعات الداخلية بين الرهبان اليونانيين أنفسهم بناءً على انتماءاتهم المناطقية اليونانية والعائلية. علاوةً على ذلك، كانت البطريركية غارقة في ديونٍ وصلت إلى أكثر من 600 ألف جنيه إسترليني1.
ومع التغييرات التي أحدثتها الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي الوليد، انقطعت الإمدادات الماليّة التي كانت تُغدِقُها الإمبراطورية الروسية على البطريركية، وتبع ذلك انخفاضُ عدد رحلات الحج الروسية وعائداتها، وضعف الإمدادات المالية من دول أخرى كانت تدعم البطريركية اليونانية. ممّا أدّى إلى انخفاض مدخولات البطريركية بنسبة 60%2.
وفي ظل هذه الظروف، شكّل «هربرت صموئيل» المندوبُ الساميّ البريطانيُّ الأول، والمعروف بانتماءاته الصهيونية، في حزيران 1921 لجنةً ماليةً لوضع خطّة تصفيةٍ لتلك الديون، واستمر عملها لمدة عامين، جُدّدت لعامين إضافيين3. قامت اللجنة بمسحٍ لعقارات الكنيسة وأملاكها، وأفادت بأن الكنيسة أدارت في ذلك الوقت ما يقارب 631 عقارًا في فلسطين الانتدابية4.
خَلُصَت اللجنةُ في تقريرها النهائيّ إلى أن لا حلّ لأزمة البطريركية إلّا عبر بيع جزءٍ من تلك العقارات. أمّا الزبائن المحتملون والأكثر ثراءً وقدرةً على الشراء في ذلك الوقت، فلم يكونوا سوى مندوبي الحركة الصهيونية الذين بدأوا منذ أواخر العهد العثماني بالنشاط في مجال شراء الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات عليها5.
كانت معظم صفقات البيع التي تمت ضمن خطة تصفية الديون البريطانية لأراضٍ في القدس، وبالأخصّ غربيّ البلدة القديمة. مثلًا، وعلى الرغم من احتجاجات العرب، بيعت عن طريق هذه اللجنة في العام 1923 مساحاتٌ من الأراضي غربي القدس لشركة (The Zionist Palestine Land Development Company)، والتي تُعرَف بالعبرية باسم «تأهيل اليشوف/ المستعمرة»6، وهي واحدة من مرتكزات الاستيطان الصهيوني التي نشطت في شراء الأراضي وتحويلها إلى مستعمرات زراعية منذ أواخر الفترة العثمانية. كما أُجِرّت مساحات واسعة من أراضي غربي القدس في ذلك الوقت، ومنها أراضٍ تقع فيما يُعرف اليوم بـ«رحافيا».
من هنا بدأت يد الاستيطان الصهيوني تتوغل غربيّ البلدة القديمة للقدس، والتي تملك فيها الكنيسة ما يقارب 4500 دونم7. ووضعت المؤسسات الصهيونية يدها، شراءً أو استئجارًا، على مساحاتٍ واسعةٍ من الأراضي توجد فوقها اليوم مبانٍ حكومية «إسرائيلية»، ومئات الشقق السكنية في مستوطنات «إسرائيلية» بارزة تقع في قلب غربي القدس. وهو ما عبّر عنه الباحث في شؤون الكنيسة الأرثوذكسية أليف صباغ، قائلًا: «لولا بيع البطريركية اليونانية للعقارات لما قامت القدس الغربية»، أو كما عبّرت عنه رسالةٌ وجهها أبناءُ النادي الشبابي الأرثوذكسي في القدس عام 1929 إلى المندوب السامي تعترض على بيع الأراضي الـ«مستمر بلا توقف»، لافتة النظر إلى أن الأراضي التي تباع من «أفضل العقارات وأكثرها قيمةً» لدى الكنيسة الأرثوذكسية8.
التنظيم السياسي للعرب الأرثوذكس
تعيينُ مطرانٍ يونانيٍّ غير ناطق بالعربية في الناصرة، وعمليات البيع هذه دفعت لعقد المؤتمر الأرثوذكسي الأول في حيفا بين 15-20 تموز من العام 1923، بحضور 54 ممثلًا عن الأرثوذكس في فلسطين والأردن. طالبَ المؤتمرون فيه بتعريب الكنيسة والمشاركة في إدارة شؤون عقاراتها، وبإصلاح نظام المحاكم الكنسية، وغيرها من المطالب المكرّرة من نهايات الفترة العثمانية. وعبّر المؤتمرون عن انزعاجهم من دعم البطريرك اليوناني اللامحدود للانتداب البريطاني، ومن ريبتهم من علاقاته القريبة مع رجال الحركة الصهيونية والتي ترافقها تصريحات وديّة، بل مؤيدة، تجاههم9.
وبعد هذا المؤتمر بدأ النضال العربي الأرثوذكسي لاسترداد الكنيسة من السيطرة اليونانية يأخد بعدًا مُنظمًا أشدَّ وضوحًا، وأصبحت الاحتجاجات والأنشطة الأرثوذكسية فيما يخصّ الكنيسة تتقاطع مع أهداف ونشاطات الحركة الوطنية الفلسطينية التي كانت في طور التبلور آنذاك.
دور الصحف الفلسطينية
ظهرت الصحفُ الفلسطينيةُ كمنبرٍ مهمٍ في التوعية ضدّ الاستئثار اليوناني بالكنيسة، ومنها مرآة الشرق والكرمل والدستور وصوت الشعب. وبرزت بشكل خاصّ صحيفة «فلسطين»، إذ خصصت قسمًا بعنوان «شؤون أرثوذكسية» لمناقشة قضايا الكنيسة ومتابعة أخبار رعيتها ومطالبهم.
وقد كتب عيسى العيسى، في مذكراته بأن ترويج وتعزيز الخطاب الأرثوذكسي الوطني في مقابل رجال الدين اليونانيين و«خدمة القضية الأرثوذكسية في المقام الأول»، كان أحد أهم العوامل التي دفعته لتأسيس الصحيفة10. وقد روّجت «فلسطين» لفكرة أن النضال ضدّ الصهيونية والنضال ضدّ السيطرة اليونانية على الكنيسة الأرثوذكسية هما قضيتان مرتبطتان فلسفيًا وسياسيًا، ومَركبان في مشروعٍ فلسطينيٍّ وطنيٍّ واحدٍ، واعتبرتْ في إحدى المقالات «اليونان والصهاينة والبريطانيين ثلاثة انتدابات ساعدت إحداها الأخرى في سلب العرب الفلسطينيين حقوقهم»11.
لجان بريطانية ومؤتمرات أرثوذكسية متلاحقة
خلال فترة الاستعمار البريطاني شكّل المندوب السامي لجنتين للبحث والتحقيق في قضية الأرثوذكس العرب، اللجنة الأولى هي لجنة «برترام – لوك»12 شُكّلت عام 1921، أما اللجنة الثانية فهي «برترام – يونغ»13 شُكِّلَت عام 1925.
اعتبرت لجنة «برترام -يونغ» العرب الأرثوذكس «ضحية لتطورات تاريخية مؤسفة»، ورفعتْ توصياتها لحكومة الانتداب بتعديل الأنظمة العثمانية على نحو يضمن مشاركة العرب الأرثوذكس بنسبة الثلثين في مجلس مختلط للطائفة مع رجال الدين، وأن يُفتَحَ البابُ أمام الرهبان العرب ليصبحوا أعضاء في «أخوية القبر المقدس»14. ولكن اللجنة كذلك اعتبرت أنه لا صلاحية للحكومة البريطانية بتغيير القانون العثماني لعام 1875 في ما يتعلق بطريقة انتخاب البطريرك، والتي تتم بدون مشاركة أبناء الطائفة.
وكما حصل مع توصيات سبقتها، ذهبتْ هذه التوصيات أدراج الرياح. إذ اعترض البطريرك عليها معتبرًا أنها تدخلٌ في أمور البطريركية، ولم يصدر عن حكومة الانتداب ما يحوّل تلك التوصيات إلى قانون أو أنظمة، وبالتالي خيّبت اللجنة آمال الأرثوذكس.
في العام 1931 وفور وفاة البطريرك داميان الأول، رأى الأرثوذكس الفرصة سانحةً لتجديد مطالبهم، فعُقِدَ المؤتمر الأرثوذكسي الثاني في يافا لمناقشة موضوع انتخابات البطريركية، وواصل ممثّلو الطائفة الأرثوذكسية مطالبة السلطات البريطانية بالتدخل وإتاحة إجراء انتخابات نزيهة يشارك فيها أبناء الطائفة. كما توّجه ممثلون عن الطائفة لرفع دعوى في المحكمة العليا البريطانية مطالبين بإجراء تلك الانتخابات. وعلى الرغم من إصدار القضاة البريطانيين قرارًا لصالح العرب، واحتفال الصحف ومنها صحيفة «فلسطين» به إلا أنه بقي حبرًا على ورق.
لاحقًا، أصدرت حكومة الانتداب في العام 1935 قانونًا باسم «قانون البطريركية الأرثوذكسية» رقم 21، والذي تحدّث عن طريقة انتخاب البطريرك بعيدًا عن أماني الأرثوذكس العرب. وفي ما بعد أصدرت تعديلًا له يَحْرِمُ أيًّا من الرعيّة الأرثوذكسية من اللجوء إلى القضاء من أجل الاعتراض على انتخاب البطريرك. وفي نهاية المطاف لم يُفلِح العرب الأرثوذكس بمنع تنصيب البطريرك الجديد، فأصبح تيموثيوس الأول عام 1935 بطريركًا.
وانتهت فترة الاستعمار البريطاني على فلسطين بعقد المؤتمر الأرثوذكسي الثالث في القدس في أيلول من عام 1944، والذي أكد على مطالب المؤتمرين السابقين، وأعلن رفضه للقانون البريطاني.
نخلص من هذا العرض المختصر إلى أن السلطات الاستعمارية البريطانية، ورغم تأييدها الظاهر لمطالبات الإصلاح التي نادى بها العرب الأرثوذكس وإصدار اللجان التي شكّلتها توصيات لصالحهم، إلّا أنها لم تكن ترى من مصلحتها الالتفات الجدي إلى أيٍّ من تلك المطالبات. ولم تنظر حكومة الانتداب للعرب الأرثوذكس على أنهم منفصلون عن مجتمعهم الفلسطيني العربي والمسلم، ولم تكن ترى فائدةً لها من تقوية الشعور والحضور العربي داخل الكنيسة الارثوذكسية، كونه لن يكون حضورًا دينيًا فقط، بل حضورًا عربيًّا وطنيًّا مناهضًا للاستعمار والصهيونية.
في المقابل، لم يكن وجود الرهبان اليونانيين على رأس الكنيسة الارثوذكسية يشكل أي عوائق أو تحديات ذات شأن أمام البريطانيين، فالبطريركية، كما تقول الباحثة لورا روبسون، ظهرت كمؤيدة للبريطانيين، بل أيدت كذلك وعد بلفور، ورفضت كذلك مقترحات «تدويل القدس»15.
الكنيسة الأرثوذكسية بعد نكبة عام 1948
كان الاحتلال «الإسرائيلي» لما يقارب ثلثي مساحة فلسطين عام 1948 «فاتحةً لعلاقةٍ أمتن»16 بين رجال الدين اليونان وبين الحركة الصهيونية. بعد النكبة وَقَعَت البطريركية بجسمها الإداري ومقرّها في البلدة القديمة للقدس تحت الحكم الأردني، لكن ذلك لم يمنعها من عقد صفقاتٍ جديدةٍ تخصّ الأراضي الواقعة غربي القدس، منهما الصفقتان المشهورتان عام 1951 و1952.
وُقّعتْ الصفقةُ الأولى في 6 تشرين الثاني 1951، وشملت تأجيرًا طويل الأمد، أي لمدة 99 عامًا، لأراضٍ في منطقة الطالبية، غربي البلدة القديمة للقدس، بمساحة قدرها 176 دونمًا. الطرف الثاني في تلك الصفقة كان «الكيرن كاييمت»، أو ما يُعرف عربيًا بـ«الصندوق القومي اليهودي»، المؤسسة «الإسرائيلية» المسؤولة عن إدارة أراضي الدولة في ذلك الوقت17.
وُقِّعَتْ الصفقةُ الثانيةُ بعد أقل من عام، في 25 آب 1952، وشملت مساحة تصل إلى 128 دونمًا غربي القدس كذلك، تتوزع في أراضي الطالبية والقطمون والمالحة وعين كارم وغيرها. وفيما بعد عقدت صفقات أخرى لتأجير أراضٍ تعرف باسم «دير المصلبة» بالقرب من بيت صفافا، تقدر مساحتها بحوالي 360 دونمًا18. وغالب أراضي هاتين الصفقتين أصبحت اليوم ملكاً كاملاً لشركات استثمارية أجنبية مسجلة في دول الملاذ الضريبي.
قانون أردني ضاع بين الحكومات
كان الأمل بعد ضمّ الضفة الغربية للأردن أن يتم إصدار تشريعٍ جديدٍ يحلّ محل التشريعات العثمانية والبريطانية ويحلّ الأزمة الأرثوذكسية ويمنح العرب حقوقهم المسلوبة، ويضع حدًّا للتفرد اليوناني بالكنيسة العربية. توفي البطريرك تيموثيوس عام 1956، وبعد محاولة الانتعاش من آثار النكبة التي لحقت بالمجتمع الفلسطيني، كانت الفرصة مواتيةً مرةً أخرى للعودة لإعلاء صوت العرب الأرثوذكس، فعُقِدَ المؤتمر الأرثوذكسي الرابع في القدس في نفس العام، مؤكدًا على كل القرارات والمطالبات ذاتها من المؤتمرات السابقة.
استطاعت اللجنة التنفيذية المنبثقة عن المؤتمر الرابع الوصول إلى صيغة مشتركة مع حكومة سليمان النابلسي الأردنية، عُرِفت بـ«قانون البطريركية الأرثوذكسية» لعام 1957، وكان مُرضيًا للكثير من مطالب الطائفة الأرثوذكسية. أُقِرَّ هذا القانون من مجلسي النواب والأعيان، ولكن لم تُستَكمل المصادقة عليه، إذ أُقيلت حكومة سليمان النابلسي، ومن ثم سحبته حكومة سمير الرفاعي19.
في العام 1958، أقرّت حكومة سمير الرفاعي الأردنية قانونًا جديدًا؛ «قانون بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية»، وهو القانون الذي ما يزال ساريًا حتى اليوم. عدا عن إضافته تعبير «الروم» إلى اسم البطريركية، الأمر الذي سعى له اليونان دومًا، فإنه «لا يلبي الحدّ الأدنى من الحقوق»20، وقد «جاء القانون في صالح الإكليروس اليوناني، فأضاع حقوق العرب الأرثوذكس مرة أخرى»21.
صفقات اليوم
بالانتقال إلى أيّامنا هذه، يمكن الحديث عن صفقات البيع أو تجديد عقود الإيجار التي تورط فيها البطريرك الحالي ثيوفيلوس الثالث والذي تولى سدة البطريركية منذ العام 2005، وذلك بناءً على الوثائق المتاحة، سواء تلك التي وردت في الصحف «الإسرائيلية»، أو التي نشرها نشطاء الحراك الأرثوذكسي22.
عُقِدت في عهد ثيوفيلوس الثالث 18 صفقةِ تسريبٍ للعقارات لأيدي الجهات الاستيطانية. أغلبها تجري من خلال شركات أجنبية مُسجلة في دول الملاذ الضريبي كجزر الكاريبي وغيرها، بهدف إخفاء أسماء أصحابها ومن يقفون خلفها، إلا أنّه من الواضح أنها شركات مرتبطة بالجمعيات الاستيطانية، وفي أحسن الأحوال برجال أعمال إسرائيليين.
صفقة باب الخليل: ربما يصح القول أن هذه الصفقة بما يترافق معها من خسارة بالغة للعقارات المقدسية أعادت تحريك المياه الراكدة في مسألة العقارات الأرثوذكسية، وهي إحدى العوامل التي دفعت إلى تسريع انعقاد المؤتمر الأرثوذكسي في بيت لحم في الأول من تشرين الأول الماضي.
تشمل الصفقة عقارين موجودين في ميدان عمر بن الخطاب، بعد الدخول إلى البلدة القديمة من جهة باب الخليل بقليل، بالإضافة إلى أرض أخرى في منطقة باب حطة تعرف بالمُعظمية. تعتبر منطقة باب الخليل مستهدفة بكثرة في مخططات التهويد الإسرائيلية، فعدا عن كونها منطقة سياحية، يعدّ باب الخليل الطريق الرئيس الذي يمرّ منه المستوطنون نحو صلاتهم أمام حائط البراق، ومن هناك غالبًا ما يدخلون إلى حارة اليهود. كما أن المنطقة تفضي إلى قلعة القدس، إحدى المعالم الأساسية في البلدة القديمة، والتي تحوي متحفًا «إسرائيليًا» يروّج للتاريخ اليهودي للمدينة.
أما المَعلَمان الأساسيان المسربان تأجيرًا لمدة 99 عامًا، فهما فندقا «إمبريال» و«البتراء»، بما يحويانه من محال تجارية تصل إلى 22 محلًا. تعود قضية تأجير هذين المعلمين إلى العام 2004، في عهد البطريرك «إيرنيوس» والذي عُزل على إثرها. أعطى «إيرنيوس» يومها وكالةً للراهب «باباديموس»، مسؤول المالية، بالتوقيع على عقود الإيجار التي تخصّ الكنيسة، فأجّر الأخير الفندقين لمدة 99 عامًا لشركات أجنبية متصلة بجمعية «عطيرت كوهنيم» الاستيطانية، بمبلغ بخس هو مليون و805 آلاف دولار.
بعد عزل «إيرنيوس»، جاء ثيوفيلوس مدعيًا أنه سيبطل الصفقة ويعيد العقارات، خاصة أن المجمع الكنسي لم يوافق عليها، مما يسهل إبطالها، لكن تسلسل الأحداث منذ ذلك الحين يشير إلى عكس ذلك تمامًا، فثيوفيلوس لم يفعل إلّا ما يؤكد ويثبت عقود التأجير تلك. كما ورد على لسان ممثلي المجلس المركزي الأرثوذكسي فإن البطريرك «قصد إساءة إدارة معركتها القانونية وبالتالي خسارتها». مثلًا، قدّم عدد من المحامين، وبشكل تطوعي، آراءهم وتوجيهاتهم القانونية لكيفية إدارة ملف صفقة باب الخليل في المحكمة العليا بشكل يضمن استعادة الأوقاف المتعلقة بها، ولكن البطريرك ثيوفيلوس لم يلقِ لها بالًا. كان من بين توصيات هؤلاء المحامين أن تُعيد البطريركية كل الأموال التي استلمتها مقابل الصفقة في محاولة للإثبات الجدي أن ما حصل هو تزييف، لكن ذلك لم يحصل.
كما أن البطريركية وجمعية «عطيرت كوهنيم» توافقتا على أن تكون القضية المرفوعة في المحاكم بخصوص إخلاء عقارات باب الخليل محصورة بينهما كطرفين متنازعين، دون أن يُسمح للمستأجرين المحميين، وهي عائلات مقدسية تستأجر تلك الفنادق وما فيها من مرافق ومحلات وتشغلها، بالانضمام إلى مداولات القضية. وفي ذلك إضعاف كبير للموقف الساعي لإبطال الصفقة، كما يشرح الباحث أليف صباغ.
عدا عن ذلك، اتفقت البطريركية والجمعية الاستيطانية على عدم السماح للراهب «باباديموس» بالانضمام إلى المحكمة كشاهد رئيس. و«باباديموس» هو المتهم الأساسي في توقيع صفقة باب الخليل نيابةً عن البطريرك السابق «إيرنيوس». يقول صباغ: «فيما بعد، لم يقبض «باباديموس» الثمن المتفق عليه، فانقلب على البطريركية وعلى المستوطنين وقدّم طلبًا للمحكمة لتقديم شهادته، إلا أن الطرفين رفضا ذلك». كما أن محامي الطرفين لم يستدعوا أيًا من الشهود الأساسيين، مما يعزز من القول أن المحكمة ليست سوى مسرحية.
وفي آب الماضي، أقرّت المحكمة المركزية صفقة التأجير، ورفضت ادعاءات البطريركية التي قالت إنها ستتوجه للمحكمة العليا، ولكن لم يحصل شيء من هذا القبيل حتى الآن، بحسب المجلس المركزي الأرثوذكسي. وانطلقت بعد هذا القرار سلسلة من الفعاليات الأرثوذكسية المناهضة للبطريركية والساعية لإنقاذ عقارات الكنيسة.
ومن أبرز الصفقات الي عقدت في السنوات الماضية:
صفقة بيع «رحافيا» أراضي الطالبية: تضم هذه الصفقة 570 دونمًا من الأراضي التي تملكها الكنيسة غربيّ القدس، والتي كانت البطريركية قد أجّرتها بعقود طويلة الأمد (99 عامًا) لمؤسسات الحركة الصهيونية في خمسينيات القرن الماضي، إلا أنها قامت في العام 2016 ببيعها بيعًا تامًا لشركة إسرائيلية باسم «نيوت» يملكها أبناء عائلة «بن دافيد» الإسرائيلية، وذلك بما يقارب 11 مليون دولار (إضافة لمبالغ أخرى دفعتها العائلة في سنوات سابقة لقاء تأجيرها الأراضي).
يصف المجلس المركزي الأرثوذكسي، إحدى الجهات المناضلة لاستعادة الكنيسة الأرثوذكسية وعزل البطريرك، تلك الأراضي بأنها «رئة القدس»، كونها تشمل مساحات واسعة غربي القدس، تقع فوقها مؤسسات إسرائيلية عديدة منها أجزاء من «متحف إسرائيل»، وأجزاء من «مركز إرث مناحيم بيجن»، وفندق ومسرح، وما يقارب 1200 شقة سكنية يعيش فيها مستوطنون23.
صفقة دوار الساعة في يافا: وهي عبارة عن مساحة تصل إلى ستة دونمات تشمل محالًا تجارية وشققًا، وقد بيعت في العام 2013 بمبلغ 1.5 مليون دولار، إلى شركة مسجلة في الخارج باسم (Bona Trading Limited).
صفقة قيسارية: وتشمل بيع 430 دونمًا بما يشمل المدرج الروماني الأثري في المدينة التي هُجر أهلها عام 1948، وذلك بمبلغ مليون دولار، بيعت في العام 2015، لشركة (Senet .ventures inc)
صفقة طبريا: بيع 11.5 دونمًا في مدينة طبريا المحتلة، في منطقة «دير الرسل»، لشركة (Kronti Investments Limited)، بمبلغ يقارب مليون دولار أمريكي. كانت هذه الأرض مؤجرة منذ السبعينيات لشركة إسرائيلية، ومن ثم بيعت بيعًا نهائيًا في العام 2011.
الحراك الارثوذكسي اليوم
شهد العام الماضي عودة لتصاعد النضال العربي الأرثوذكسي لاستعادة البطريركية، بدءًا من انعقاد المؤتمر الوطني لدعم القضية الأرثوذكسية في بيت لحم، والذي جاء بخلاف سابقيه تحت عنوان «المؤتمر الوطني»، وليس «المؤتمر الأرثوذكسي»، وقد جمع أطياف الشعب الفلسطيني وممثلي القوى والفصائل الفلسطينية وممثلي الطائفة الأرثوذكسية في مختلف أنحاء فلسطين والأردن.
كما أن نجاح أعضاء المجلس المركزي الأرثوذكسي وناشطين آخرين من الفلسطينيين الأرثوذكس (مثل حراك الحقيقة الأرثوذكسية) في الحصول على الوثائق والأوراق الرسمية التي تُثبت توّرط البطريرك اليوناني في بيع العقارات الأرثوذكسية أو تأجيرها لجهات إسرائيلية، راكم الغضب ضدّ البطريرك وأعوانه. وقد انعكس هذا الغضب واضحًا صباح السبت الخامس من كانون الثاني 2018 عندما واجه بعض أبناء الطائفة الأرثوذكسية موكب البطريرك اليوناني في بيت لحم، بالأحذية والبيض، محاولين منعه من الوصول إلى كنيسة المهد وإحياء قداس عيد الميلاد فيها.
وقد نُظِمَت خلال الأشهر الأخيرة، مظاهراتٌ ونشاطاتٌ متنوعة لمنع استقبال البطريرك في عدد من الكنائس، في عدة قرى ومدن، مثل القدس، الرينة، وحيفا، واللد. في محاولة لتعطيل ذلك، استأجرت البطريركية اليونانية في القدس خدمات شركة علاقات عامة «إسرائيلية»، هي شركة «ديبي» التي أسسها «موشيه ديبي» الذي عمل مستشارًا إعلاميًا لعدد من الوزارات الإسرائيلية. وقد أخذت هذه الشركة على عاتقها نشر «الرواية» اليونانية حول صفقات تسريب العقارات، وعملت على تشويه شخصيات ناشطة في الحراك العربي الأرثوذكسي.
وبموازاة هذه الحملة الإعلامية نُظِمت جولة محلية وأخرى دولية للبطريرك ثيوفيلوس الثالث، وشملت تلك الجولة لقاءه شخصياتٍ أردنية وفلسطينية، كالملك عبد الله الثاني، ورئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد لله.
أخيرًا، ورغم التطورات التي شهدها النضال الأرثوذكسي في الآونة الأخيرة، إلا أن القضية الوطنية الأرثوذكسية ما زالت تنتظر رافعة نضالية تجعلها في مركز الاهتمام الوطني والشعبي، وتنجح في استرداد بعض العقارات على الأقل، وذلك بما يتلاءم مع حجم الصفقات التي تقضي على آخر ملامح الوجود العربي خاصة في غربيّ القدس، وأن لا يكون هذا الاهتمام وما يرافقه من احتجاجات وتغطية إعلامية مجرد اهتمام موسميّ.
المصدر: حبر