صدر مؤخراً، كتاب جديد بعنوان "سباق ضد التاريخ: حملة 1940 للجيش اليهودي لمكافحة هتلر"[1] من تأليف ريك ريتشمان. يبحث الكتاب وثائقياً وتحليلياً في رحلة قام بها ثلاثة من قادة الحركة الصهيونية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940. تم تحرير الكتاب من وجهة نظر صهيونية، بهدف دعائي، يهدف إلى تعظيم دور هؤلاء الثلاثة في السياق الصهيوني وإعادة اكتشافهم، وإظهار قيمة ما أنتجوه لمصلحة مشروعهم، وكشف جهودهم التي وُصفت بـ"البطولية والمأساوية" في آن معاً، والتي للمفارقة كانت على يد شخصيات متناقضة ومتحاربة فيما بينها، وإن جمعها الهدف نفسه[2].
تنبع أهمية الكتاب أيضاً، من إلقائه نظرة جديدة على تاريخ الصهيونية في الولايات المتحدة، منعكساً بالضرورة على النقاش المحتدم حالياً بين الكيان الصهيوني ويهود أميركا. يعتمد هذا النص، في منهجيته، على توثيق هذه الزيارات في الصحافة الأمريكية واليهودية التي تمكنا من الوصول إليها، وعلى مراجعات مسبقة[3]، ونصوص مستخلصة من الكتاب.
نسعى، من خلال هذه المقالة، إلى الإجابة على تساؤلات عدة؛ منها: لماذا فشلت مساعي جابوتنسكي ووايزمان وبن غوريون في إنشاء جيش يهودي وتعبئة اليهود الأمريكيين في الحركة الصهيونية؟ وكيف بالمقابل ساهمت هذه الزيارات في تعبئة يهود أمريكا لمصلحة أهداف الحركة الصهيونية، على مستويي "إنقاذ يهود أوروبا" وهزيمة هتلر، وترسيخ الدولة اليهودية في فلسطين؟
ورغم أن الهدف المُعلن لهذه الرحلات المنفصلة كان السعي لحشد وتعبئة يهود الولايات المتحدة لإنشاء جيش يهودي في خضم الحرب العالمية الثانية، إلا أنه كان لها ولوقائعها آثارٌ مهمةٌ، سواءً على صعيد تطور الحركة الصهيونية نفسها في مسعاها للاستيلاء على فلسطين، أو في صهينة الواقع اليهودي الأمريكي وتجنيده، كما أسست بشكل عميق للعلاقات اللاحقة بين اليهود الأمريكيين والكيان الصهيوني.
بين الهدفين المعلن والمُضمر
قام كلٌّ من فلاديمير زئيف جابوتنكسي، وحاييم وايزمان ، وديفيد بن غوريون على التوالي بهذه الرحلة الأمريكية، التي كان الغرض المعلن منها محاربة هتلر والمشاركة في هزيمته في أوروبا، غير أن وثائقَ أخرى، كما يبين ريتشمان، تُظهر أن الهدف الحقيقي هو الاستيلاء على فلسطين وإقامة استيطان يهودي فيها يتجاوز مرحلة "اليشوف" إلى مرحلة إقامة دولة يهودية في فلسطين.
ومن نافل القول التأكيد أن مساعي الحركة الصهيونية لتشكيل قوة مسلحة، ذات طابع نظامي، هي مساعٍ قديمة تعود، ربما، لما قبل وعد بلفور والحرب العالمية الأولى. وهذا لا يبدو مستغرباً في حال تتبعنا جميع النصوص التأسيسية للحركة الصهيونية، التي تعتمد على فكرة التحرر بالقوة، ومواجهة الاندماج، وضرورة أن يكون لليهود "جيشهم الخاص". ويذكر ريتشمان أنه بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب العالمية الثانية، قدم الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون (1886-1973) إلى الهاغاناه اقتراحه بإنشاء دولة يهودية في فلسطين بقوة السلاح.
من البديهي اعتبار أن زيارة بن غوريون كانت الأكثر أهميةً، بسبب بروزه حينها كزعيم صهيوني كبير في واشنطن ولندن، بل كان كذلك قد مهد لزيارته تلك منذ عام 1939، عندما أنش المكتب الصهيوني-الأمريكي بمساعدة عدد من النشطاء من أتباعه في الولايات المتحدة، وذلك بالتضامن مع عدد من المنظمات الصهيونية هناك، بهدف تجنيد اليهود وجمع الأموال، وكان مدفوعاً في توجهه الأمريكي بالسياسات البريطانية تجاه فلسطين وصدور الكتاب الأبيض الذي اعتبرته الأوساط الصهيونية نوعاً من الارتداد عن وعد بلفور[4].
كانت تلك الزيارات التي كانت منفصلة، ومتتالية، وغير منسقة بين الثلاثة، في إطار جهود الحركة الصهيونية لإنشاء قوات عسكرية يهودية مستقلة تحت علم يهودي خاص، بما يضمن حصول اليهود على مكانة