عرضت قناة الجزيرة يوم الأحد 18-2-2018 ما أسمته "تحقيقاً خاصاً" حمل اسم "تل الزعتر خفايا المعركة"، ضمن اتجاهها المستمر منذ سنوات لعرض كل القضايا والملفات في قالبٍ تحقيقي سواء كان ما مارسته عملاً صحفياً تحقيقياً أم مجرد توثيقٍ لملفات قائم على البحث والمقابلة، ليس هذا الاتجاه جديداً، ومن يشاهد برامج الصندوق الأسود وتحقيقات الجزيرة المتعددة سيجد -ومع استثناءاتٍ محدودة- أن عدة الشغل واحدة: تعليق يروي حكاية فريق عملٍ أو غرفة عمليات، يفتح تحقيقاً يوهم المشاهد بأن الفريق تفرغ له بالفعل على مدى شهور، وأنه "كشف" عن معلوماتٍ لم تكن منشورة، مع توظيفٍ لمشاهد تضفي "الجو التحقيقي" كالصور الجوية والخرائط ومشاهد الطرقات أو غرف العمليات، واستنتاجٍ في نهاية الفيلم غالباً ما يكون على شكل سؤال. في الواقع لقد كان حتمياً أن تنتهي هذه القولبة الشكلية -التي نادراً ما تحتوي عملاً استقصائياً حقيقياً- إلى إخفاقاتٍ كبرى وتشويهٍ للقضايا التي لا تحتمل عرضها على سبيل الإثارة والتشويق فقط، وهذه المرة كانت مجزرة تل الزعتر بما تحمل من ألمٍ عميقٍ ومعانٍ تاريخية، الضحية الأحدث لهذا التشويق الرخيص.
بنى الفيلم روايته على ثلاثة رواة: مقاتلي النمور الأحرار وقادة الكتائب وتبنى روايتهم حول بداية حصار المخيم باعتبارهم "ضحايا" في حالة دفاعٍ مطلقٍ عن النفس، وعاد ليتبنى روايتهم مرة أخرى حول ضرورة شن المعركة على تل الزعتر لأنه ضبط متلبساً بتخزين كمية من المؤن تسمح له بالصمود في وجه الحصار، لينتهي بأن ما فعلوه كان "مقاومة مشروعة" دون أن يتحدى ذلك بأي رأي أو مقولةٍ مقابلة، ودون أن يخبرنا لا بوثائق ولا بأرقام سوى بعض شهاداتٍ خجولة عن مصير أكثر من 3,000 شهيدٍ فلسطيني قتلهم أصحاب تلك الرواية بروح سادية وتشفي وشعورٍ بالتسلية والمتعة شملت التقطيع والسحل والذبح وإطلاق النار، أما الراوي الثاني فهو بلال حسن من الصاعقة الذي يقفز في شهاداته بين كونه مكلفاً بمهام لدى الجيش السوري إلى البطل المقاوم ثم إلى الضحية الذي يبكي وهو يفقد شهيداً قبل أن يصبح ضحية مؤامرة فصائل منظمة التحرير لاغتياله فيهرب فجأة قبل يومٍ من سقوط المخيم ويقابله حاجز للكتائب فيفصح عن هويته بأنه ضابط سوري فيبقى حياً ليخرج لمؤتمر صحفي في البقاع اللبناني ويعلن براءة الجيش السوري من الأحداث. كل هذا التناقض والكذب والاختلاق سمح له المخرج وطاقم التحرير بأن يخرج إلينا دون أية رواية تتحداه، وأفردوا له مساحة من الفيلم قاربت 10 دقائق. أخيراً جاء الأطباء والناجون ليدخلوا الفيلم في ثلثه الأخير ليشكلوا الراوي الثالث.
إن أي دارسٍ لمجزرة تل الزعتر يدرك أن للقصة خمسة أطرافٍ مركزية هي بشكلٍ أساس حركة فتح كبرى فصائل منظمة التحرير تقابلها حركات اليمين والانعزال الماروني النمور الأحرار والكتائب ومن ورائها الكيان الصهيوني الذي عزز أحلامها بإمكانية الهيمنة على لبنان ومدها بالسلاح والدعم وتعزيز الغطاء الأمريكي، والجيش السوري -الطرف الذي دخل إلى لبنان تحت ستار تلك الأحداث- وحلفاؤه الصغار من الفصائل الفلسطينية الوظيفية التابعة له. السؤال الأبرز: أين رواية حركة فتح وفصائل المنظمة؟! لقد قابل الفيلم قياداتٍ تاريخية من تلك الحركة كانت شاهدةً أو قريبةً من الأحداث مثل غازي الحسيني ومعين الطاهر، لكنه لم يسمح لها ببناء روايتها حول القضية بل وظفها فقط في إطار إدانة الفصائل التابعة للنظام السوري، وكأن دور فتح في المعركة كان فقط أن تكون شاهد الزور على الصاعقة والقيادة العامة، لم يقل لنا الفيلم كيف صمد المخيم 8 أشهر في الحصار، ومن بنى فيه مخازن المؤن وكيف كان محصناً، وكيف خيضت لكسر الحصار عنه معارك كبرى في صنين والجبل خسرت فيها حركة فتح خيرةً من طليعة مقاتليها في مواجهة الجيش السوري، كان أولى لهم أن لا يُجروا نحو هذه المواجهة المفروضة عليهم لحماية أهلهم ووجودهم، ولم يتحدث عن محاولات كسر حصارٍ كادت تصل إلى التفكير في حصار زحلة. السؤال التالي له هو أين شهادة النظام السوري؟ إذا كان المخرج قال إنه حاول مقابلة عبد الحليم خدام فهل يعفيه ذلك من لقاء أي مسؤولٍ سياسي أو عسكري آخر؟! إن اتفاق المخرج أو خلافه إلى أبعد حدٍّ مع ذلك النظام لا يبيح له تزوير روايةٍ تاريخية بأية حال، وقد بدى الفيلم مدفوعاً دفعاً نحو إدانة النظام السوري وتحميله المسؤولية الكبرى عن تلك المجزرة، بينما يتبنى الفيلم رواية القتلة الحقيقيين الذين قابَلهم واحتفى بروايتهم، بل وقبل منطقهم حين رضي بمقابلة محاولة مزعومة لاغتيال زعيم الكتائب بقتل 27 طفل فلسطيني في عين الرمانة، ومقابلة قتل 4 من كوادر الكتائب بقتل أكثر من 1,000 لبناني مسلم في مجزرة الكرنتينا وحرقهم والتنكيل بجثثهم واستخدام أجزاء من أجسادهم كقطعٍ تذكارية ما تزال تزين بيوت بعض قادة الكتائب حتى يومنا هذا!
الصهاينة حضروا كمجرد شهود في ذلك الفيلم، وبالكاد ذُكر تسليحهم للكتائب والنمور الأحرار، ولم يسأل المخرج نفسه وهو يضيف المشاهد التي تتحدث عن تسليح صهيوني لليمين اللبناني كيف يتفق ذلك مع خطاب المَسكَنة الذي تبناه لبداية المعركة؛ إذا كان الكيان الصهيوني طرفاً مباشراً في دعم وتسليح الكتائب والنمور الأحرار، وطرفاً غير مباشر مع الأمريكان في قبول دخول القوات السورية ضمن شروط محددة، فهل يعقل ألا يكون طرفاً في التخطيط والتدبير ودفع اليمين الانعزالي اللبناني إلى تصفية الوجود الفلسطيني مع سبق التخطيط والإصرار! حين يأتي باحث بعد أربعين عاماً على الحدث فلا يمكنه أن يعمي عينيه عن أن عمليةً منهجيةً من المجازر أفرغت لبنان من كتلةٍ أساسية من اللاجئين الفلسطينيين فيه، كانت محطتها الأولى المروعة في تل الزعتر على يد قوات الانعزال المارونية تحت حماية المدافع السورية، والثانية في صبرا وشاتيلا على يد قوات الانعزال اليميني المارونية ذاتها لكن بحماية الدبابات الصهيونية، وهل يمكن أن تغمض عين باحثٍ عن الحقيقة عن أن هذه المنهجية هي امتداد للممارسة الصهيونية القائمة على الطرد بالقتل والإرهاب والترويع كما مورست في دير ياسين واللد والرملة ويافا مع اختلاف اليد المنفذة؟.
في الخلاصة، لقد ارتكبت الجزيرة خطيئتين: خطيئة الاستخفاف بآلام الضحايا ومعاناتهم وبالفلسطينيين وتاريخهم وبعقل جمهورها، وخطيئة تبرئة وتنظيف القاتلين المركزيين والحقيقيين: قوى الانعزال اللبناني ومن أمدّها بالسلاح والتخطيط والغطاء السياسي والعسكري. باختصار، لقد زوّر هذا الفيلم التاريخ باسم وهم التحقيق والاستقصاء، وسمح في آخره للقيادي في الكتائب سجعان قزي بأن يخاطب أجيال اليوم مدافعاً عما أسماه "مقاومة" دون أن يتحدى روايته تلك برواية مقابلة أو صورةٍ أو حتى تعليق، وتبقى الحقيقة الموضوعية التي لا يمكن لخفة الجزيرة أن تمحوها أن "مقاومة" قزي تلك ليست إلا خيانةً وعمالةً وتواطؤاً مع الكيان الصهيوني كانت مدفوعةً بغرائزيةٍ طائفيةٍ وأحلام هيمنة أقليةٍ، توهمت أن بإمكانها أن تقيم دولة أقلية ثانية إلى جانب "إسرائيل" تتحالف معها فأخفقت وفشلت، لكنها نجحت اليوم في أن تروي لنا روايتها على لسان الجزيرة.