أيام قليلة مضت على إهدائنا السلام لجنين كلها التي أنجبتكَ واحتضنتكَ أسيراً ومقاوماً ومطارداً، حتى جاء اليوم الذي تهديها أنتَ السلام بطريقتك الخاصة، بروحك ودمك وبسالتك، لم تمضِ أيام على السلام الذي أهديناه لأمك التي جعلت منكَ فارساً مقداماً كوالدكَ الذي اختارته رفيق درب وكان نعم الرفيق، حتى أرسلتَ أنتَ لها السلام وأهديتها كما لم يفعل أحد من قبلك، أهديتها في يوم ميلادها روحك، فكنتَ نعم الابن البار، ولكن أقسى ما خلّفته بعدك يا أحمد شوق ودموع وفقد يفتك وجع الفقد الاول اذ استشهد أبيك.
لا بقاء لجسد يا أحمد، ولكن لا فناء للفكرة، هكذا علّمتنا أنتَ وأبوك، إذ فُني جسد أبيك منذ أعوام طوال، ولكن لم تفنى الفكرة التي تجددت بك، وها نحن اليوم نفقدك جسداً ولكن تبقى فكرتك المتوارثة حية يتناقلها جيل بعد جيل.
لا ننكر الغصة التي في قلوبنا على رحيلك يا أحمد، إذ كنتَ المنعش لسباتنا في فعلك وبطولتك، وكنتَ الملهم للشاب الذي تشابه معك في البطولة، فنفذ أمس عملية طعن على مدخل مستوطنة "ارئيل" وتمكن من الانسحاب بسلام بعد أن أثخن فيهم أوجاعاً وقتل مستوطناً غاصباً، فله السلام كما لك ألف سلام.
أحمد.. 22 عاماً فعلت فيها ما لم نفعله نحن القاعدون إذا ما قارنا أنفسنا بجهادك، نحن العاجزون إذا ما قارنَّا شبابنا بشبابك، نحن الذين هرمنا إذا ما قارنَّا أعمارنا بعمرك، يصعب عليّ إيجاد عنوان لحياتك إلا قول "في سبيل الله ما لقيت"، إذ عشت يتيماً حاملاً الثأر في قلبك، ثم أسيراً، ثم مقاوماً، ثم مطارداً، واليوم أنت الشهيد ابن الشهيد، هكذا هي سيرة الأحرار في وطني، والشهادة خير اصطفاء إذ كنتَ أقوى جند لأصعب معركة نحياها اليوم، معركة مع الاحتلال وكل مَن يعاونه، لا أستطيع تخيل حال المخبر الخائن الذي تسبب في جزعنا هذا، وكان سبب فقدنا لك، كيف استسهل أن يخون الوطن وأن يخونك وأن يخوننا اذ كان الشعب كله يهتف باسمك في كل ميدان.
إنك يا أحمد، كشفت لنا زيف الاحتلال بكل أجهزته، فخلال مطاردتك كشف الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال، إذ هي لا تساوي شيئا أمام إرادة الفلسطيني المقاوم، لا تقوى على شيء أمام صُلب إيماننا بحقنا، ولكن العملاء وجه الاحتلال الآخر، هم أيضاً كدولة الاحتلال لا بقاء لهم حتماً، فلتحيا جهنم لأجل الخونة، ولتحيا فلسطين بدماء أبطالها.
أعود للحديث عن أمك يا أحمد، أمك التي حملتَ ملامحها بدقة، تجلس اليوم لا لأخذ عزائك، إنما لترفع رأسها عالياً اذ بلّغتَ أنتَ بفعلكَ هذا أباك الشهيد، إنها كانت نعم الزوجة والأم، ونعم مَن أورث الابن حق أباه حتى عاد منتصراً، اليوم تجلس أمكَ وتحمل قرآنك الذي أهداك إياه والدكَ مذ كنتَ صغيراً وكتب عليه "الى ابني العزيز أحمد"، قرآنك الذي حصّنك يوم أن عزّ الحصن والضلع، وتهديك لفلسطين، ليس تمظهراً ولكن يقيناً بأنك أطهر من أن تبقى على الأرض ميتاً، بل وجب أن تكون في السماء شهيداً وذكرك على الأرض مزلزلاً.
لا تصدقنا يا أحمد، كلنا كنّا نكتوي وجعاً عليكَ ثم نعود إلى حياتنا المعتادة، وحدها أمكَ حصنتك بدعائها وقلبها، وحدها أمك التي صدقتكَ الدعاء فارتقيت شهيداً الى العُلا في يوم ميلادها، ليكون ذكرى ميلادها هو ذاته ذكرى ميلادكَ الجديد يا ابن النصر، وفي هذا أيضاً كنتَ تشبهها.
أحمد.. وإننا لنبكي حالنا، نسأل الجنة التي طلبتكَ أن تطلبنا، ونسأل الأرض التي احتضنتك اليوم أن تحتضننا على ذات الشاكلة، أحمد.. بلّغ أباك والشهداء الأحرار أمثالكم منّا السلام، وأخبرهم أنه ما زال فينا نصر وألف ألف أحمد.