شبكة قدس الإخبارية

الليث الذي لم يخف يومًا ولم يهرب

شذى حمّاد

رام الله – خاص قُدس الإخبارية: أمام الجيب العسكري المحصن بداخله جنود الاحتلال، وقف ليث ثابتًا يسدد حجارته الواحد تلو الآخر، متصديًا ورفاقه لاقتحام قريتهم، حيث المرور من هنا لا يكون آمنا وسهلاً للاحتلال، إلا بدفع التكلفة.

تنهال الحجارة على الجيب العسكري الذي اقتحم بشكل مفاجئ قرية المغير شمال شرق رام الله عصر 30 كانون ثاني 2018، فالشبان هنا على أهبة الاستعداد الدائم للتصدي، فيما يعلو نداء ليث هيثم أبو النعيم (17عامًا) مرة أخرى، "لا أحد يهرب، لا أحد يهرب.. اضربوهم، اضربوهم".

يقترب الشبان الواحد تلو الأخر من الجيب، يسدد أحدهم الحجارة التي جمعها ثم ينسحب ويتقدم الآخر ويعيد ما فعله رفيقه، أما ليث فكعادته فلا يدير ظهره، يتناول من حوله الحجارة ويسددها ثابتاً في مكانه على بعد أمتارٍ قليلة من جنود الاحتلال.

يفتح باب الجيب الذي يبعد مترين وربما أقل عن ليث، ينسحب الشبان بينما يطل الجندي على ليث ببارودته مطلقا رصاصة واحدة من النوع الحي ستخترق جبينه، ليؤمن الغطاء لباقي الجنود الذي سينزلون الآن من حصنهم ويحاصرون الجثمان الصغير.

يتفقد الشبان بعضهم البعض، يصرخ أحدهم: "أين ليث".. فيعود ماجد مسرعاً متفقدًا صديقه الذي كان بجانبه قبل دقيقة فقط.

"كان ليث ممداً أمام الجيب، ينزف من رأسه بينما يضع أحد الجنود قدمه على رقبة ليث، فيما يواصل الجنود الآخرين إلقاء قنابل الغاز والرصاص المعدني صوبنا"، يروي ماجد رمضان أحد أصدقاء الشهيد ليث لـ قُدس الإخبارية.

يحاول ماجد الوصول إلى صديقه الممد الذي ما عاد يلبي ندائه، إلا أنه يفشل مرة أخرى أمام رصاص الاحتلال وقنابله، "تفجرت جمجمة ليث وكان ينزف الكثير من الدماء.. بينما الجنود يصرّون على إبعادنا من المكان، تيقنت في تلك اللحظة أن الجنود لن يتركوا ليث حتى يستشهد".

[gallery type="slideshow" ids="138746,138745,138747,138741,138742,138743,138744,138738,138739,138740,138736,138735,138734"]

غادر المشيعون المقبرة بعد أن وري ليث الثرى، بينما بقى ماجد أمام قبر صديقه، يفتح يديه بين كل لحظة وأخرى يدعو لصديقه ويقرأ له سورة الفاتحة التي تعلماها معاً وهما في الروضة، "لم أكن أريد أن أتركه.. حاولت وحاولت إلا أن الجنود أجبروني ألا اقترب منه".

يستعيد ماجد ذكرياته مع ليث، ويختزلها، "كان ليث متواضعاً جدا، حنون ومحب للجميع، دائما يفعل الخير ويسعى له.. كان يحترم الجميع في المدرسة من أساتذة وطلاب"، يتلفت ماجد إلى قبر صديقه مجددًا ويعلق، "فقدنا ليث.. وفقدانه عزيزٌ جدا على قلوبنا".

كباقي الفتية أقرانه، كان يخطط ليث لمستقبله الخاص، فقد كان يحلم أن يكمل تعليمه وصولا إلى الجامعة، يؤكد أصدقائه أنه كان لاعبا مميزاً بكرة القدم، سريعاً، خفيفاً واستغل هذه الصفات في ميدان المواجهات مع الاحتلال.

في القبر المزين بأكاليل الزهور والأعلام بقي ليث، بينما تسابق أقرانه وأصحابه إلى المواجهات التي اشتدت مع قوات الاحتلال بعد تشييعه، ليغيب ليث للمرة الأولى عن المواجهات التي لم يسبق أن غاب عنها.

يتفقد عبد الكريم أبو علي من حوله، يدور دورتين باحثًا عن صديقه قبل أن يتذكر مجددا أن رحل، "ماذا أقول عن ليث؟ .. لقد كان أكثر من أخ وأكثر من صديق.. لقد كان لي ولأصدقائي كل شيء، كل أهالي المغير يحبون ليث ويحترموه، كما كان يحبهم ويحترمهم هو أيضا، فلم يسيء لأحد يوما.. هكذا هو ليث منذ قدومه على الدنيا".

يضيف عبد الكريم لـ "قُدس الإخبارية"، "كل حياة ليث وكل تفكيره وكل ما يشغل باله كان كيف سيحرر الوطن، وكيف يدافع عن فلسطين، وكيف يستعيد أرضه.. كان يتحدث دائما عن حلمه بالاستشهاد في سبيل الوطن".

في خط الدفاع الأول كان ليث دائما بالمواجهات التي تندلع شبه يوميا في قرية المغير التي يحاذيها شارع 60 الاستيطاني، فيما يحاول المستوطنون بين الفينة والأخرى نصب منازل لهم في المنطقة كمقدمة لإقامة بؤرة استيطانية جديدة على أراضي المغير، يعلق عبد الكريم، "كان ليث يتحدى الجنود بحجر.. كانوا يهجمون عليه ويبقى واقفا لا يتحرك حتى أصبحوا هم يخافون منه.. ليث سنه صغير ولكن فعله كبير جدا".

جدّته تروي القصّة

بقميصٍ أزرق سماوي، ووجه مبتسم، وملامح هادئة، يقف ليث بصورة كبيرة معلقة في بيت الجدة نعمة حيث تربى مذ كان عمره عامين بعد أن ودع والدته التي خطفها مرض السرطان، تروي الجدة لـ قُدس الإخبارية، "العام الماضي اقتحموا المنزل بحثًا عن ليث الساعة الثالثة فجرًا، احتجزوه في إحدى الغرف وبدأ ضابط الاحتلال بتهديده والصراخ عليه متهمين إياه بتوجيه أضواء الليزر على جنود الاحتلال خلال المواجهات".

وتضيف، "في تلك الليلة خفتُ عليه كثيرا، وبكيت عليه وكنت خائفة من اعتقاله وخاصة أنه في اليوم الثاني كان يصادف العيد".

الجدة التي طالما ميزت حفيدها بحبٍ خاص تلقت نبأ إصابته بعد ساعتين من خروجه من المنزل للعب مع أصحابه قبل أن يزف لها خبر استشهاده، "اعتنيت به وقمت بتربيته منذ كان صغيرا لا يتعدى عمره عامين.. كنت أخاف عليه كثيرا وأحاول أن أبقيه بجانبي وأمنعه من الخروج".

ليث لم يكن ينادي جدته إلا "يمّا" كما ينادي جده "يابا" ساعيًا لكسب المزيد من الحب منهما، تعلق جدته، "كان ليث محبوبًا واجتماعيًا وإنسانيا.. لم يشتكي منه أحد يومًا".

على باب المنزل تقف قريبات ليث ليستقبلوا جثمانه ويتركوا على جبينه قبلاتهم الأخيرة، تزغرد نساء القرية، وترددن، "جاء العريس.. جاء العريس"، وتعلو الزغاريد مرة أخرى.

عمة الشهيد ليث تروي لـ قدس الإخبارية، "قبل أيام قليلة استيقظت على طفلي نسيم – ثلاث سنوات – يبكي في الليل باحثًا عن ليث وهو يردّد: الجيش طخوا ليث.. الجيش طخوا ليث".

لم تصدق العمة حلم طفلها، ولم تتوقع يوما أن تفقد ليث الذي تحب، تقول "كأنني ما زلت في الحلم، لا أستطيع تصديق أن ليث رحل عنا.. ولكن الحمدلله أنه شهيد، الحمدلله".

في يومه الأخير، جلس ليث يصنع "مقليعة" جديدة بعد أن تلفت مقلاعه القديم، مستعداً لمواجهات جديدة ستندلع في القرية، وأخذ يعلّم نسيم كيف يصنع "المقليعة" عندما يكبر.. يردد الطفل نسيم لوالدته مجددا، "متى يعود ليث؟.. أريد أن ألعب مع ليث"، فيما تعلو هتافات المشيعين الذين حملوا ليث على أكتافهم: "دم الليث فينا صاح.. بدنا نقاوم بدنا سلاح".