"هذه الطريق تؤدّي إلى مناطق (أ) التابعة للسلطة الفلسطينيّة، الدخول للمواطنين الإسرائيليّين ممنوع وخطر على حياتهم، ويشكّل مخالفة جنائيّة بحقّهم". هذه الكلمات، يجدها المُسافر في شوارع الضفّة الغربيّة على طول الطريق الرئيسي تقريباً، كُتبت بخط أبيض عريض على خلفيّة حمراء بارزة باللغات الثلاث: العبرية والعربية والإنجليزية.
وبشكل عام، فهي يرافقها حاجز عسكريّ أو برج مراقبة وبنية حاجز، يفتحه الاحتلال بشكل غير متوقّع. وهي أيضاً تتموضع على تفرّعات الطرقات الرئيسيّة التي بنيت كطرق سريعة تربط مستوطنات الضفّة الغربيّة بمستوطنات مركز فلسطين والساحل، وتمتد هذه الطرق السريعة من الساحل حتّى الأغوار. وبصورة أدق: يمكن للمُسافر من مدينة يافا المحتلّة حتّى رام الله أن يسير على طريق واحد دون انقطاع يشق عرض فلسطين حتّى مدينة أريحا، عليه حاجز واحد ثابت لا يعترض الداخل إلى الأراضيّ المحتلة العام 1967، ويكتفي بتفتيش الخارج منها. وعلى هذا الطريق تحديداً، تبرز اليافطة ذاتها على تفرّعاتٍ بعضها إلى اليمين وأخرى إلى اليسار.
صُمّمت هذه اليافطات الحمراء، مع "اتفاقيّة "أوسلو". وهي تدلّل عملياً على دخول المناطق (أ) وبعض من المناطق (ب)، وتخضع الأولى لسيطرة أمنيّة وإداريّة فلسطينيّة وتشكّل حواليّ 18 في المئة من الضفّة الغربيّة، وتخضع الثانيّة لسيطرة إداريّة فلسطينيّة وأمنيّة إسرائيليّة وتشكّل حواليّ 22 في المئة من الضفّة الغربيّة. أمّا ما تبقّى من هذه الاخيرة، اي حوالي 60 في المئة من مجمل أراضيها، فهو مناطق (ج) التي تخضع لسيطرة أمنيّة وإداريّة إسرائيليّة.
هذه اليافطات تؤشّر لمناطق سيطرة السلطة الفلسطينيّة الإداريّة، فالسيطرة الأمنيّة هي للاحتلال، إن كان في (أ) أو (ب) أو (ج). وعلى الرغم من الادّعاء ومن هذا التقسيم فإن الاحتلال يجتاح الضفّة الغربيّة جميعها في اللحظة التي يريد دون أي اعتبار لأي سيادة أخرى، باستثناء شكل واحد من السيادة: المتخيّلة.
هذا النوع من السيادةعلى فقط 30 في المئة من الأراضي في الضفّة الغربيّة ، يكتسب في فلسطين شكلاً وصورة أخرى، وهو أحد أهم ركائز استمراريّة النظام السياسي على طريق الدولة المتخيّلة. فكما هي السيادة واحتكار العنف المشروع أهم ركائز تقوم عليها الدولة الحديثة، فإن السيادة المتخيّلة أهم ركيزة تقوم عليها الدولة الفلسطينيّة المتخيّلة داخل المناطق ذات الكثافة السكّانية العالية في الضفّة الغربيّة: داخل مناطق (أ).
تفكيك مظاهر الدولة المتخيّلة في الضفّة الغربيّة وفهمها يمكن أن يقود الى تفسير كيفية تحوّل المزيج من الحكم الذاتي الفعلي ومن رموز سيادة متخيّلة إلى وَهمٍ يُعاد تدويره يومياً مع رموز وسياسات يستهلكها المجتمع الفلسطيني: داخل الوزارات، في الشوارع، في الإعلام، المهرجانات، الخطابات، وحتّى مركبة الشرطة التي عندما تحتاج إلى الانتقال من رام الله إلى الخليل عبر طرقات المستوطنين يُرغمها الاحتلال على تغطيّة غمّازاتها الضوئيّة، كي لا يرى المستوطن أيًّاً من مظاهر السيادة المُتخيّلة الموجودة داخل معازل الحكم الذاتيّ.
المصلحة مُتبادلة: التنسيق لصياغة المخيّلة
في نهاية العام الماضي، تصدّتْ قوّات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينيّة لدوريّات جيش الاحتلال التي أرادت اقتحام مدينة جنين. انتشر الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعيّ بين مهلّل ومتفاجئ من هذا السلوك الغريب وغير المتوقّع من قبل قوّات الأمن الفلسطينيّة، خاصة أنّ من المعروف في فلسطين أنه، ومع دخول قوّات الاحتلال، تختفي الأجهزة الأمنيّة عن المشهد. وحتّى يُقال عادة أنّه قبل دخول قوّات الاحتلال ليلًا تختفي الأجهزة الأمنيّة بفعل التنسيق. وبعد تداول الفيديو بأيّام، انتشر تقرير صحافيّ إسرائيليّ يشير إلى أنّ أجهزة الأمن الفلسطينيّة طلبت من جيش الاحتلال اقتحام جنين من طريق آخر معد لدخولهم، وتم التنسيق لذلك.
الفرق بين الطريقين واضح: الأول هو المدخل الرئيسيّ لجنين حيث يقود إلى السوق ومركز المدينة. أمّا الطريق الآخر فهو التفافيّ يقود إلى ضواحي جنين. والفرق بين الطريقين أكثر وضوحاً حين نتفحّص ناتج الاقتحام من كليهما: في الأول تقتحم قوّات الاحتلال وسط المدينة حيث التجارة والاكتظاظ، ما سيؤدّي إلى مواجهات وفوضى وتذكير بالحقيقة. أمّا في الثاني فإن قوّات الاحتلال تدخل بين بيوت مفرّقة دون فوضى، فتؤدّي انتهاكاتها وتعود أدراجها دون أن تؤثّر بشكل جذريّ على النظام القائم، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
" حتّى مركبة الشرطة التي، عندما تحتاج إلى الانتقال من رام الله إلى الخليل عبر طرقات المستوطنين، يُرغِمها الاحتلال على تغطيّة غمّازاتها الضوئيّة، كي لا يرى المستوطن أيًّاً من مظاهر السيادة المُتخيّلة الموجودة داخل معازل الحكم الذاتي ".
هناك نظام قائم فعلاً داخل المناطق الفلسطينيّة: تجارة نشطة، محاكم، محامون، معتقلون، صحف ومجلّات، بالإضافة إلى حكومة وأجهزة أمن. هذا النظام القائم عملياً، يتشكّل ويتفاعل على هامش الاستعمار دون أن يشتبك معه. نقاط الاشتباك باتت فعلياً على حدود هذه المعازل، أو التجمّعات السكنيّة ذات الكثافة السكّانيّة. فمثلاً يشتبك الفلسطيني مع جيش الاحتلال في منطقة "بيت إيل"، وهي النقطة التي تجسّد حدود معزل رام الله باتجاه القدس، حيث يقف جنود الاحتلال وراء الحاجز والفلسطيني أمامه دون أن يقتحم كل منهما حدود معزله. وفي أغلب الأحيان، تمنع الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة الشبّان من الوصول إلى نقطة التماس، فتأمرهم بالعودة إلى دوّار المنارة وسط رام الله حيث يتظاهر الفلسطيني ضد ذاته داخل معازل لا يرى فيها غريمه، ولا يراه غريمه أيضاً، فتستمر الحياة داخل المعزل ويستمر الاستعمار خارجه بالاستيطان والمُصادرة والتنقّل. ولعل أفضل من يعبّر عن قيمة هذه الحالة هو رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال حين قال إن أحد العوامل المركزيّة التي منعت تطوّر الهبّة الفلسطينيّة الأخيرة إلى انتفاضة شعبيّة شاملة، وأبقتها في سياق عمليّات طعن ودهس فرديّة، هو عدم اقتحام الجيش للمناطق ذات الكثافة العاليّة، ما أدّى إلى عدم احتكاك فعليّ ومباشر بين قطاعات واسعة من الفلسطينيين والجيش.
منتصف العام 2014، ومع اختطاف المستوطنين الثلاثة في الضفّة الغربيّة، اقتحمت قوّات الاحتلال غالبيّة المدن الفلسطينيّة، وأقامت الحواجز العسكريّة. وفي إحدى الليالي التي اقتحمت قوّات الاحتلال وسط رام الله، وتحديداً دوّار المنارة، اندلعت مواجهات عنيفة خلّفت إصابات، فباتت الصور تدلّل على معركة من زمن الانتفاضة لا تنتمي إلى زمن اللا احتكاك مباشر. مع بزوغ الفجر، باتت الصور فعلاً تتحدّث عن زمن آخر، وكأن تلك الليلة لم تكن، إذ قامت البلديّة قبل بزوغ الفجر بتنظيف الشوارع من الحجارة ومخلّفات الاحتلال، فعادت وكأنّ شيئًا لم يكن. إن الحفاظ على هذا الوضع القائم، أي الاحتلال خارج المشهد العام، يشكّل في المقابل ركيزة مصلحة عليا للسلطة الفلسطينيّة حيث يمكّنها من احتكار العنف على الشعب دون الاصطدام بالقوّة التي تحتكر العنف فوقها. ولعل هذا ما يفسّر أن الاحتلال ذاته بحث سقوط السلطة بشكل جدّي بعد تلك الليلة في العام 2014، حين بدأ الشبّان بإلقاء الحجارة على مركز شرطة رام الله بالموازاة مع إلقائها على قوّة الاحتلال التي اقتحمت رام الله، مطالبينهم، ولو بصورة غير مباشرة، بأخذ دور فاعل كمؤسّسة أمنيّة.
المجتمع في حالة دولة
يعيش المجتمع الفلسطينيّ حالة مركّبة: دولة تخضع لسلطة دولة أخرى في علاقة بنيويّة. فالدولة، ولو اكتملت إدارياً، تبقى غير قادرة على الحكم إلّا في اللحظة التي تحتكر فيها العنف المشروع. أمّا فلسطينياً، فنحن أمام دولة إداريّة فعليّة تحتكر العنف اتجاه المجتمع الفلسطينيّ، ولكنّها، بالمقابل، تحتكره تجاه المجتمع الفلسطيني بشرط عدم احتكاره، أو حتّى محاولة السعي لاحتكاره على حيّز محدّد من الأرض. في هذه المعادلة يعيش المجتمع الفلسطيني بالضفّة الغربيّة تحت سلطة إداريّة فيها كافة مظاهر الدولة، من الصحيفة التي تناشد "المواطنين"، حتّى مجمّع المحاكم، مروراً بالوزارات والوزراء والموظّفين.
حتّى أن كل برقيّة حكوميّة تصل إلى الفلسطيني طُبع عليها في رأس الصفحة "دولة فلسطين"، وصولاً إلى الشركات الكبيرة، من الاتصالات والعقارات، بالإضافة إلى الانتخابات كحل لأزمة الانقسام يُطرح من قبل النخب السياسيّة والفكريّة الفلسطينيّة. وتلك جميعها مرتبطة عملياً باستمرار الوضع القائم، إذ يعيش الفلسطيني واقع دولة إداريّ دون أي واقع سياديّ على المورد أو الأرض أو الجو أو البحر. ومن هنا، يبدأ المجتمع عمليا في استهلاك وتعاطي الواقع الإداري: شدّة قمع الأجهزة الأمنيّة، هيئة لحقوق الإنسان، محاكمات صوريّة، لجنة فساد، لجان مراقبة.. وحتّى يُقال أن أحداً اقترح يوماً أن يتم سن قانون مواطَنة. ولعل أفضل ما يعبّر عن هذا الحال هو سفر الفلسطيني، إذ على الجسر الذي يربط الضفّة بالأردن حيث يستطيع الفلسطيني أن يسافر هناك عبر ثلاث محطّات يمر فيها: الأولى فلسطينيّة غير مخوّلة أصلًا بالختم على جواز السفر، بل تختم على ورقة خارجيّة، الثانية إسرائيليّة تختم الجواز وتصرّح بالعبور إلى الأردن، والثالثة أردنيّة تختم أيضاً جواز السفر. وبكلمات أخرى: الأولى صوريّة، والثانية والثالثة هما السلطتان الحقيقيّتان على الأرض.
"" من المحتمل أن تفشل حركة تحرّر وطني في تحقيق أهدافها أمام حركة استعماريّة استيطانيّة كالصهيونيّة. هذا احتمال وارد في التاريخ. ولكن أن تُعلِن حركة التحرّر الوطني عن تحقيق أهدافها رغم خسارتها وانهيار الأهداف، فهذا ما يحصل فقط في فلسطين، حيث يوجد يوم استقلال ودولة وأجهزة وحكومة ورئاسة واقتصاد وفساد ""
السلطة الصوريّة تجاه إسرائيل والأردن ليست صوريّة تجاه الفلسطيني، وهي حقيقيّة وقائمة في اتجاه واحد: تستطيع الاعتقال والتعذيب والقمع وتطبيق القانون، ويمكنها أيضاً أن تكون فاسدة، وأن تؤسّس لجنة نزاهة ومراقبة، وتشرّع قوانين دون مجلس تشريعيّ. هذا الواقع بدأ يُنتج في الضفّة الغربيّة مجتمعاً يعيش حالة دولة دون دولة فعليّة، وهذا ما يسمّى عملياً "حكماً ذاتيّاً". ولكنّه أيضاً ليس "حكماً ذاتيّاً" مُعلناً، والأدق "حكماً ذاتياً" بصورة دولة. وهذا ما يلتقيّ مع خطاب السلطة الفلسطينيّة ومنظّمة التحرير التي قامت ببناء برنامجها السياسي على أساس "تحقيق الدولة". ومن المحتمل أن تفشل حركة تحرّر وطني في تحقيق أهدافها أمام حركة استعماريّة استيطانيّة كالصهيونيّة. هذا احتمال وارد في التاريخ. ولكن أن تُعلن حركة التحرّر الوطني عن تحقيق أهدافها رغم خسارتها وانهيار الأهداف، فهذا ما يحصل فقط في فلسطين، حيث يوجد يوم استقلال ودولة وأجهزة وحكومة ورئاسة واقتصاد وفساد. وهذه كلّها بدأت بإعلانها بعد هزيمتها، ففشلت في تحقيق الاستقلال، وأعلنت عنه من الجزائر. فشلت في تحقيق الدولة فبنت وزارات. فشلت في تحقيق السُلطة فتقاسمتها مع الاستعمار.
ومن هنا، تدريجياً، بدأت عمليّة إنهاك المُجتمع في دوّامة الدولة الإداريّة ونظام البنوك والنظام الحقوقيّ لمجاراة الواقع أمام غياب شبه كامل للاحتلال عن المشهد. ومن هنا يمكن فهم الظاهر: خرج الآلاف عملياً دعماً لحقوق المعلّمين وضد وزارة التربيّة الفلسطينيّة. وخرج الآلاف احتجاجاً على قمع السلطة للمتظاهرين عند استنكارهم لمحاكمة الشهيد باسل الأعرج، ومن المتوقّع أن ينزل الآلاف مرّة أخرى ضد الإهمال الطبّي، على الرغم من حقيقة أن مظاهرة نصرة للأسرى لن يكون فيها إلّا العشرات. والمثال الأكثر تجسيداً هو وجود عشرات ضد محاكمة شهيد، وعشرات الآلاف ضد قمعهم.
السلطة الفلسطينيّة بشكلها الحالي، خاصة الأمني، هي أداة بيد الاستعمار. هذه حقيقة كُتبت كثيراً، وأثبتت كثيراً أيضاً، وباتت مفهومة ضمناً. ولكن خطابها السياسيّ هو السؤال هنا. حين يبدأ السياسي بتطبيق ما يتمنّى عنوة، فإنّه يحوّل الأمل إلى كذبة. والكذبة في الشرط الفلسطيني لها ثمن يُدفع. وكما قال وزير التربيّة والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينيت، "نمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً ( (Autonomy، ويستطيعون تسميته ما يريدون". هنا، اختارت منظّمة التحرير تسميّة معازل الحكم الذاتي دولة، إلّا أن هذه الدولة على مستوى الخطاب والهيكليّة الإداريّة تشكّل، بحد ذاتها كقيمة في المجتمع، أداة إنهاك واستهداف، ولو بصورة غير مباشرة. إن إسقاطاتها بعيدة المدى على المجتمع أخطر من اعتقال هنا وهناك. فهي من جهة تجعل من هدف المجتمع الفلسطيني، أي تحقيق الدولة واقع موجود ومُعاش يومياً؛ ومن جهة أخرى تقتل الهدف المتخيّل حين يصبح واقعاً فاسداً ومُرتبطًا بالاستعمار.
لعل أسوأ ما تقوم به السلطة الفلسطينيّة، والمرحلة التي يعيشها الفلسطيني اليوم، هو تجسيد الحلم بأبشع صوره ليغدو كابوساً يُغرق الفلسطيني بالقروض البنكيّة، والقمع الممنهَج، والتعاون المستمر مع من يسعى يومياً لقتله مادياً ورمزياً. تشكّل الدولة المتخيّلة، ومنذ العام 2006 تحديداً، أي بعد نهاية الانتفاضة الثانية وبداية عصر النيوليبراليّة في فلسطين، أداة ضبط للمجتمع وتوجيهه إلى الداخل. هذا طبعاً في الوقت الذي يتوسّع فيه الاستعمار، يستوطن ويتطوّر على مساحة 70 في المئة من الضفّة الغربيّة. كثيرة هي علامات الاستفهام حول سكوت الفلسطينيون على الوضع القائم، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، في الضفّة الغربيّة خصوصاً. ولكن الإجابة تسكن في أنهم يعيشون عملياً داخل معازل الضفّة في حالة من الأمان المتخيّل: إن لم تتدخّل في السياسة فلن يطرق بابك أحد، لا الاحتلال ولا السلطة، وإن طرق أحدهم فإنّه بسبب عدم التزامك بالدفعات الشهريّة للقرض البنكيّ الذي يشكّل هاجس كل عائلة.