في مثل هذا الوقت قبل ثلاثين عاماً انطلقت الانتفاضة الأولى في مخيم للاجئين داخل قطاع غزة عندما صدمت شاحنة تابعة للجيش الإسرائيلي سيارة مدنية وقتلت أربعة فلسطينيين. انتشرت الانتفاضة كالنار في الهشيم وظلت مشتعلة لست سنوات. كانت تعبيراً شعبياً عن الإحباط تجاه ما يزيد عن عشرين عاماً من الاحتلال، وكانت حدثاً فاجأ الإسرائيليين كما فاجأ القيادة الفلسطينية التي كانت آنذاك في المهجر في تونس. وهذا الأسبوع اندفع ترامب بشاحنة ليصدم أكثر تظلمات الفلسطينيين حساسية: وضع مدينة القدس. وعلى إثر ذلك انطلقت دعوات لأيام غضب، وقد يتطور ذلك إلى حالة من الغليان تستمر لعدة أعوام قادمة.
ما من شك في أن قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل" ونقل السفارة الأمريكية إلى هناك خطوة مستفزة ورعناء. سوف ينجم عن ذلك استعداء الحلفاء العرب، وإشعال فتيل الاحتجاجات في كل أرجاء الشرق الأوسط، وستكون له عواقب خطيرة وربما فتاكة على عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية.
بدلاً من استيعاب هذه المخاطر، تحدث السيد ترامب عن ضرورة القبول بالواقع، قائلاً إن القدس باتت مقراً للبرلمان الإسرائيلي وللمحكمة العليا الإسرائيلية. وما ذلك إلا ستار من دخان يخفي وراءه نواياه الحقيقية. ما يفعله السيد ترامب هو ممارسة دبلوماسية الإكراه من خلال إيجاد حقائق جديدة على الأرض لم تكن موجودة من قبل.
مثلها مثل قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود، يعتبر وضع مدينة القدس – ذات المكانة الخاصة لدى أتباع الديانات الثلاث – من الأمور التي لم تحسم بعد. لم يحصل من قبل أن إسرائيل أو أي دولة أخرى حصلت على اعتراف بحق السيادة على القدس. وعندما أعلنت إسرائيل في عام ١٩٨٠ القدس غير المقسمة عاصمة لها ندد بها مجلس الأمن الدولي، ومنذ ذلك الحين لم تفتح أي دولة سفارة لها داخل القدس. وكان من الأفضل إبقاء الأمر على ما هو عليه وإعادة إطلاق محدثات سلام ذات معنى بهدف الوصول إلى حل الدولتين.
بالنسبة للفلسطينيين، يسهم تصرف ترامب الأخير من الناحية النفسية في القضاء على الإحساس بأن الاحتلال وضع مؤقت وأنه يمكن أن يزول بمجرد الوصول إلى تسوية سلمية. كما أن قراره يقوض الموقف الأمريكي ويبدد الإحساس بأن الولايات المتحدة يمكن أن تلعب دور الوسيط النزيه لحل النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. يشبه ترامب بقراره الأحادي نقل السفارة الأمريكية لاعب البوكر الذي ينسحب من اللعبة قبل توزيع الورق. لم يقدم الإسرائيليون شيئاً على الإطلاق، فأين هو إبداعه في صناعة الصفقات إذن؟ يقول السيد ترامب إن الفلسطينيين لديهم الفرصة للحصول على سفارة أمريكية أيضاً، وهذا صحيح، ولكن لن يحدث هذا الآن، ناهيك عن أن يحدث على الإطلاق. إضافة إلى ذلك، يقوم بدور مبعوث السيد ترامب إلى الشرق الأوسط زوج ابنته جاريد كوشنر، والذي لا يمكن بحال القول إنه غير منحاز وهو الذي ضبط متلبساً وهو يحاول إخفاء دوره في تمويل المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية.
يتباهى السيد ترامب بأنه صانع صفقات بإمكانه أن ينجز ما لا قبل لغيره بإنجازه. ولكنه أشبه ما يكون بالمحتال، إذ يعرض المستحيل لأنه لا ينوي عدم الوفاء بوعده. من شأن أفعاله أن تكسبه مزيداً من الدعم في أوساط اليمين المسيحي في أمريكا، حيث يرى منتسبو هذا التيار إن سيطرة إسرائيل على القدس تحقق نبوءة توراتية، وربما تمهد لصراع نهائي بين الحضارات. إلا أن ثمة دوافع أخرى ترتبط بواقع الحال في إسرائيل التي تدير شؤونها اليوم حكومة هي الأكثر يمينية في تاريخها ويدعمها اليمين الديني. مثله في ذلك مثل السيد ترامب، تتركز الأضواء حالياً على رئيس الوزراء الإسرائيلي بسبب تحقيقات جنائية بالغة الخطورة، والرجلان كلاهما يسعيان لحشد مؤيديهم خلفهما بينما يواجه أزلامهما تهماً بالفساد قد تقودهم إلى السجن.
لا يعبأ رئيس الولايات المتحدة بمعاناة الشعوب المنكوبة، ولم يدخل عالم السياسة إلا لخدمة ذاته. منذ أن دخل البيت الأبيض وهو يستسخف مؤسسة العلاقات الخارجية الأمريكية ويعاملها بنوع من الازراء، وهو بذلك يزيد من عزلة الولايات المتحدة على الساحة الدولية ويسقط المقصلة على رأس العلاقات الجيوسياسية المعقدة في القرن الحادي والعشرين. من الواضح أن أسلوبه يقتضي فرض النظام من خلال القوة لا من خلال العدل. ولا يبدو أنه يجد غضاضة في أن يكون ثمن الوفاء بوعد من وعوده الانتخابية قتل الفرصة في إحياء عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. إذا كان ذلك ما يريده، فلينفث ما في صدره وليقرأ علينا نعيها.
لعل الذي مكن لنرجسية ترامب ولشعوره بالأبهة والعظمة ما يمارسه الأخرون مع كبر وعجرفة. لقد وصلت السخافة والحماقة بالكونغرس الأمريكي تبني قرارات أقرها النواب من الحزبين منذ ما يزيد عن عقدين تدعو إلى نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس – وكأنهم كانوا على ثقة بأنه لن يأتي اليوم الذي سيجرؤ فيه رئيس أمريكي على إجازة هذا الأمر. جاء الآن السيد ترامب لينزع الصدقية عن هؤلاء النواب بوصفهم سياسيين قادرين على اتخاذ قرارات سياسية مستنيرة.
وأما الشخص الآخر الذي يبدو إزاء ذلك في غاية الحماقة فهو ولي العهد السعودي الذي ارتدت رهاناته في لبنان واليمن عليه هذا الأسبوع والذي كان نصيب مقترحه بإقامة دولة فلسطينية أراضيها غير متصلة وليست القدس جزءاً منها السخرية والاستهزاء داخل محكمة الرأي العام العربي. ما لبث مجلس الأمن الدولي عاجزاً عن التعامل مع مخططات الدول المارقة لزعزعة الاستقرار. ونظراً لأن الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض (الفيتو) فلن يتسنى توبيخ السيد ترامب على ما جنت يداه.
إن من حق الفلسطينيين، كل الحق، أن يشعروا بأن طموحاتهم يضرب بها عرض الحائط باستمرار. ولقد أخطأ السيد ترامب عندما أعطاهم مبرراً آخر للشعور بالتجاهل.
المصدر: الغارديان